السبت 27 يونيو 2015 / 17:57

الشاعر لسان الطاغية



"في سوريا مثلا، فإن ثلث الشعب هاجر. لا يوجد شعب في العالم يهاجر ونستمر في تسميته بأنه شعب ثوري."!
أدونيس - من حوار معه في "السفير" اللبنانية
 
لم أقرأ كلاماً معاديا للبشر كهذا الكلام يصدر عن شاعر يلاحق به شعباً منكوباً بطاغية، ناهيك عن أن يكون هذا الشعب شعبه. فالمشكلة في نظر هذا الشاعر ليست في الويلات التي أنزلها نظام دموي بالناس حتى تركوا بيوتهم وأرزاقهم وفرّوا بالملايين. المشكلة، إذن، في لا ثورية السوريين فهم جبناء ويفرّون تاركين وراءهم وطناً ينزف!

أما عن ثلثي الشعب، اللذين لم يهاجرا؛ الأسير في مربّع الطاغية، والمقيم تحت البراميل، فهؤلاء لا وجود لهم في خطاب الشاعر فهو يشطبهم من جغرافية حديثه، ويُحلُّ محلهم الأجانب. فالإرهابيون الأجانب هم من يقاتل النظام السوري على أرضه السورية. لا مكان للسوريين في المعادلة الأدونيسية وهي في أصلها معادلة أسدية، فكل من يقاتلهم النظام من اليوم الأول هم "عصابات خارجية". وهكذا يتطابق خطابا الشاعر والطاغية.

ولنعد إلى السطر الأصلي:

"ثلث الشعب هاجر" يا لهذا التوصيف، كم ينطبق على السوريين، فهم "هاجروا" كما لو كانوا سياحا يسوحون في الأرض. فالسوريون الأنانيون جلسوا في الأماسي والصباحات وفكروا في السفر.. السوريون ناكروا جميل الطاغية ملوا من الإقامة في هدوء بلادهم وبحبوحتها تحت صورة العائلة المالكة، تناولوا فناجين القهوة وأكواب الشاي وتسامروا في ظلال الياسمين، قبل أن يقر رأيهم على جهات يسافرون إليها، جهات وجدوها أنسب لصحتهم ومستقبل أولادهم ومشاريعهم التجارية. ودّعوا الطاغية اللطيف عانقوه وتمنوا له أياما سعيدة، ثم حزموا حقائبهم واختاروا الشركات السياحية المفضلة وحجزوا تذاكر السفر، ولما وصلوا إلى المطارات والموانيء وبينما موظفو الهجرة يختمون جوازات سفرهم انتابتهم للحظات مشاعر المذنبين فها هم يتركون وطنهم الغالي ويؤثرون عليه العيش في أوطان أخرى. "...لا يوجد شعب في العالم يهاجر ونستمر في تسميته بأنه شعب ثوري.".

المشكلة، إذن، في نظر شاعر القبيلة الأسدية، ليست في القتل الممنهج والإبادة الجماعية بالسكود والغاز والبراميل المتفجرة. ليست في مجازر القرى والمدن والبلدات الصغيرة العزلاء بالسكاكين والبلطات، وصولا إلى الغاز، ولكن في لا ثورية الضحية العزلاء. وبالتالي فهي ضحية رجعية تستحق قدرها الأسود ومصيرها الفاجع!

المشكلة ليست في تدمير المدن بالطائرات على رؤوس الساكنة، وخلط أجسادهم بالأنقاض، ولكن في هروب الضحية من الموت. على الضحية أن تستسلم للمقتلة وتموت ميتاتها الجماعية مراراً. عليها أن تشبع موتا حتى تستحق ثوريتها، وبالتالي جدارتها الإنسانية عند شاعر "القبيلة الإيرانية" المعادية. أليس هو من قال يوما:

"كيفَ أروي لإيرانَ حبي
والذي في زفيري
والذي في شهيقي
تعجزُ عن قولِهِ الكلمات.
سأُغنّي لقُمٍّ لكي تتحولَ في صبواتي

نارَ عصفٍ، تطوفُ حولَ الخليج".

لسوف تخون الضحيّةُ السورية ثوريتها، إذ هي تهرب بالملايين من فرن الغاز الكبير لهتلر القرن الحادي والعشرين، الذي لم يبق أداة من أدوات القتل الفردي والجماعي إلا واستعملها ضد شعبه تحت سمع وبصر العالم أجمع. سفاح في الشام، تقف وراءه قوى إقليمية ودولية، وتوظفه إيران ضد حاضر بلاده ومستقبلها. ولكن ماذا عن الشاعر، الصوت العابر للأزمنة، المنتصر بقوة الكلمة وعمق الوجدان للضحية الإنسانية؟ ها هو عاشق إيران و"قم" شاعر "الحداثة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة" يُخرج من فمه تمساحا يقرأ الخوف البشري من القتل والفناء على أنه مثلبة، ويرى فيه نقيصةً تجرد الهارب من الموت من كرامته وحقوقه معا.

***
هذا سطر واحد لاغير من حديث أجرته "السفير" اللبنانية مع الشاعر السوري "علي أحمد سعيد (أدونيس). صعقني فلم أتم الحوار، وبقيت عند هذا السطر أقلّبه واتأمل فيه ولا أصدق أن يصدر عن شاعر، فهو سطر مذهل في فاشيته، ويحتوي على معنى مرعب لا يكتفي بأن يزيف المعنى الحقيقي للمأساة الجماعية، ولكنه يريد بعد تشويه الحقيقة إنكارها، تماماً، بصفاقة مذهلة. ومن ثم فإن السوريين في هذا السطر هم شعب جبان هارب من واجب تاريخي.
ولعمري فإن هذا الادعاء على شعب مشرّد بالملايين في أربع جهات الأرض لهو ضرب من تمثيلات الإبادة الجماعية الرمزية يستكمل بطريقة لا أخلاقية مفزعة الإبادة الجسدية التي مارسها طاغية الشام على السوريين. وهو إذ يصدر عن شاعر فهو لا يمكن أن يُقرأ إلا بوصفه ممارسة لدور مرسوم، ومهمة وظيفية، وليس مجرد عته طائفي يلبس لبوس الثأر للطاغية من شعب انتفض عليه.

***
إن هذا الجنوح الجنوني في إنكار حقيقة الانتفاضة السورية على الطغيان، الذي يعلنه، على مدار سنوات خمس من عمر التراجيديا السورية، شاعر افتضح انتماؤه إلى نخبة السلطة الحاكمة في دمشق بعد طول تلون وإنكار للعلاقة (أنظر مقالة صبحي حديدي في مجلة "دمشق" العدد الأول، لندن، اذار 2012) هذا الانتحار الأخلاقي في معاكسة توق السوريين إلى الحرية إنما يدمر تماما صورة الشاعر، ويسقط عن وجه أدونيس قناع الحداثي، لنكتشف وراء هذا القناع الوجه القبيح للماضي وقد  أكله جذامُ الحقد الطائفي على البطولة الأسطورية المعاصرة للسوريين وهم يحطمون، وللسنة الخامسة، أصنام الطاغية المتأله وولده المسخ المؤتمر بأمر الأعداء الإيرانيين. أما السوريون، بملاينهم المنتشرة في أربع جهات الأرض، وفي مدن الخيام  ومعهم نصف المليون من الأبرياء الذين أبادهم الطاغية، فقد اعترف لهم العالم كله، وكما رأى العالم كله، بأنهم  الشعب الذي مزق بجسده الممزَّق صفحة الكهف عن نصف قرن من العذابات وخرج إلى النور، مصراً على دخول التاريخ ولو مسربلا بالدم.

***
يا لهذا الشاعر المعادي للبشر استجابة لما استبطنه في لا وعيه النخبوي الشقي وقد بات وعيا يتبنى الجريمة عن طريق إنكار الضحية. فقد أعطى لنفسه الحق بأن ينجو، ويبقى ثوريا، ولم يخطر في باله أن يتفكر ولو على نحو عابر بفداحة الأهوال التي جعلت الناس يهربون من وطنهم حفاة عراة بالملايين، مؤثرين الخيام والمذلة على موت رأوه محققا لهم ولأحبائهم.

***
إن المفارقة المذهلة في السطر الأسدي لأدونيس، أن صاحبه الشاعر الثوري المنكر على الناس طوق النجاة هو نفسه مهاجر منذ ستينات القرن الماضي في طوق نجاة لبناني أوروبي من خمس نجوم، ويقيم بعيدا عن مسرح الجريمة، ويتكلم باسم المعذبين وهو ناكرهم، وها هو اليوم يملّكُ نفسه الحق بأن يرمي بالنقيصة الضحايا الهاربين من جحيم المعتقلات والغاز والبراميل المتفجرة.. فهم لا ثوريون لمجرد أنهم فروا من المحرقة بحياتهم وحياة أولادهم، هم لا ثوريون، لا تاريخيون، ولا يستحقون أن يسموا شعبا ثائرا، ولكن أن يسموا عصاة وخارجين عن القانون، لمجرد أنهم تجنبوا أن يكونوا طعاما لحفلات الموت الجماعية. وكان ينبغي عليهم أن يحافظوا على ثوريتهم بالجلوس تحت البراميل المتفجرة لبشار حافظ أسد، حتى لو أبادتهم جميعا. وهكذا يدخلهم الشاعر عصر الثورة ويعترف بثورتهم ويكف عن تسميتهم متمردين رجعيين خارجين على النص، ويكف عن التحريض عليهم في كل محاضرة وتصريح وحوار.

لننس السوريين العصاة المتساقطين تحت البراميل المتفجرة، فقد وضعناهم خارج الحساب، والآن، ماذا عن ثلث السوريين المشردين على أرصفة وطنهم وفي الحدائق؟ ولماذا يفضل السوري الموت غرقا مع أطفاله في عرض المتوسط، وفي بحر إيجة في أوديسا الدم والدموع؟ وماذا عن المدن والجوامع والكنائس التي هدمت بالكامل؟ وأخيراً كيف نسي أدونيس أن يرفع صوت الشاعر مطالباً بوقف القتل، ووقف التشريد؟

***
يا لهذا الشاعر وقد تفجر في لا وعيه الطائفي المريض كرهه لانتفاضة ناس على حكمٍ استبد بهم لم يشعر على ما يبدو بانتماء حقيقي إليهم، كما لم يشعر طاغيته المحبوب بهم بأكثر من كونهم عبيداً له ولأسرته الطاغية، وحطبا في قطار رحلته القاتلة. فهذا يسميهم في خطاباته عصابات وجراثيم، وذاك يسميهم في حواراته متمردين رجعيين وينزع عنهم ثوريتهم، وبالتالي حقهم القانوني والأخلاقي بالخلاص من الاستبداد.
هكذا يخون الشاعر الشعر والحرية. هكذا يبريء الشاعرُ الطاغيةَ مما دمغه به العالم أجمع. فهو لم يعد لسان الكلمة الشاعرة، ولكنه بات لسان الطاغية.