الثلاثاء 30 يونيو 2015 / 17:49

"السراب" يجيب عن سؤال: لماذا الإمارات استثناء؟


     

يمتاز كتاب "السراب" للدكتور جمال سند السويدي مدير مركز الإمارات للبحوث والدراسات الإستراتيجية، في أنه خصص مساحة من كتابه حول التشابه بين حقبتين تاريخيتين، أولاهما غرقت فيها أوروبا في الظلمات أثناء القرن الخامس عشر الميلادي، والثانية عربية إسلامية معاصرة تسممت فيها شعوبنا العربية والإسلامية بوباء الجماعات الدينية السياسية، في القرن الخامس عشر الهجري، حيث يبدو المسلمون اليوم وكأنهم يعيشون عصر الانحطاط الأوروبي، بكل أزماته التي تجلت في الصراعات الدينية، وسلطة الكنيسة وبابواتها وتغلغل الدين في السياسة، مع سؤال مؤلم وكبير طرحه المؤلف: هل يعني هذا أن مجتمعاتنا العربية الإسلامية تحتاج إلى أن تمر بكل ما مرّت به أوروبا لكي تفضي إلى عالم الحداثة؟ هل يعني هذا أن الهوة بين العالم الإسلامي وبين العالم الغربي هي خمسمئة سنة من الصراع والتنوير والتحديث والفصل بين الدين والدولة لكي نصل إلى الدولة المدنية؟

كثير من الأبحاث والدراسات التي تلت الحادي عشر من سبتمبر تناولت الجماعات الدينية السياسية وعرضت أفكارها، والفروقات بينها، وأسباب نشوئها، وعوامل ازدهارها، ولكن قلما تضمنت هذه البحوث إيجاد الحلول والبدائل، لأن من يمكنهم الاضطلاع بهذه المهمة هم نخبة المفكرين الذين يتكئون إلى حصيلة وإرث متراكم من المعرفة في الشريعة والفقه والتاريخ، وجاء "السراب" متخماً بالاستشهادات والإضاءات الفكرية المهمة.

ويعرض كتاب "السراب" نماذج أربعة لدول إسلامية، ثلاث منها نجحت بشكل متفاوت في تعاطيها مع مسألة الدين ودوره في الدولة والحياة العامة، ونجحت في مسيرتها التنموية، وهي تركيا، وإندونيسيا، وماليزيا، بينما اختار النموذج الرابع لدولة فاشلة، هي جمهورية السودان التي استشهد بها الكتاب مثالاً لخلط الدين بالسياسة وتوظيف الأول لصالح الثاني، حيث أفضت تجربتها إلى تدمير البلاد، والحروب الأهلية وانفصال جنوب البلاد، مع مقارنة بين نموذجين غربيين في تعاطيهما مع الدين ودوره في الحياة، وهما فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

"السراب" هو تكثيف لمآلات وهْمِ استيقظت الشعوب العربية والإسلامية على حقيقته بعد ما يقارب ثمانين عاماً، هو سرد لقصة فشل وإخفاق التنظيمات الدينية السياسية، والدمار الذي ألحقته بالإسلام وبأمن ومصالح الشعوب التي نشطت فيها، ووصلت إلى السلطة فيها، تلك التنظيمات الدينية السياسية بشقيها "الجهادي" أو "الإخوان المسلمون".

ولكن السويدي ينبه إلى أنه بالإمكان أن تستعيد هذه الجماعات دورها في نشر الوهم وبيع السراب مرة أخرى إذا لم تتنبه الدول والقيادات السياسية إلى أن التنمية الشاملة هي الحصن المنيع من تكرارالمأساة. هنا يمكننا أن نعرف عبر النموذج الناجح لدولة الإمارات لماذا اختار المؤلف أن يخصص الفصل السابع لتوجهات الرأي العام في الإمارات حول الجماعات الدينية السياسية. وهو مايمكنه أن يقدم وصفة عملية لجيران الإمارات وغيرهم من الدول التي تعاني من أزمة التطرف وتجنيد أبنائها لتنفيذ أعمال إجرامية ضد أوطانهم ومجتمعاتهم.

إن تخصيص الجزء السابع للكتاب لتوجهات الرأي العام في الإمارت لاستجلاء آراء المواطنين والمقيمين من المسلمين عرباً وخليجيين، حول معرفتهم بالتنظيمات الدينية السياسية، والتحليل الذي قام به المؤلف بناء على نتائج الاستطلاع لايمكن فهمه بمعزل عن فكرة أساسية أكد عليها المؤلف، وهي أن هذه التنظيمات السياسية أخفقت في معرفة الأولويات والاحتياجات الحقيقية لمجتمعاتها، إضافة إلى أنها أخفقت في إدراكها للتدين الفطري لدى هذه المجتمعات التي خاب ظنها في تجربة الحكم لهذه التنظيمات. هذا الفشل يمكن فهمه عبر شرح مستفيض قدمه السويدي حول الكوارث الدينية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تسبب بها خلط الدين بالسياسية.

يمكننا القول إن كتاب السراب يمثل تتويجاً لأكثر من عشرين عاماً من الانشغال بالأبحاث والدراسات التي اضطلع بها جمال السويدي باحثاً ومديراً لواحد من أكبر مراكز الدراسات في المنطقة. إن المتابع لغالبية الأدب الذي أنتجه الكتاب الإماراتيون، ليدرك أنه يكاد يكون هذا السفر الضخم بعنوانه الأخاذ "السراب" ذروة ما أنتج من الأدب المحلي الإماراتي، من حيث الشمول والمراجع التي اعتمد عليها المؤلف، إضافة إلى العمق والمسحة الفكرية، إلى الشجاعة في ملامسة مسائل في غاية الحساسية حول دور الدين في الدولة، منذ عصر الرسالة ومروراً بالخلفاء وطبيعة الدولة المدنية، والخلط بينهما قديما وحديثاً. ويبدو أن الكتاب سيأخذ مكانه بين المراجع الكلاسيكية التي تخصصت في الجماعات الدينية السياسية في العصر الحديث.

حرص المؤلف أن يبسط أفكار الكتاب ويسهل انتشاره عبر ملخصين اثنين صغيرين أحدهما أكثر اختصاراً من الآخر، ودعم ذلك بإنتاج فيديو قصير على يوتيوب يشرح ماتضمنه "السراب"، إلا أنه لا غنى لأي باحث جاد عن قراءة الكتاب بحجمه الأصلي بهوامشه الضخمة وحشد مراجعه الكثيرة. الحجم الكبير للكتاب خادع، فطباعته الفاخرة، وكبر حروفه، وجمال إخراجه، تجعل من قراءته سياحة ومتعة لذيذة.

على كل باحث أن يعيد قراءة الفصلين الأول والثاني الذين استغرقا نصف حجم الكتاب، حينما يبلغ الفصل السابع والخاتمة، التي خصصها المؤلف لاستشراف المستقبل والحلول والتوصيات. هذا الكتاب -بطبعته العربية الحادية عشرة، وبطبعته الإنجليزية الثامنة- يعني الخليجيين في المقام الأول، وهو أيضاً مشاركة مهمة سيجد فيها الخبراء العرب وغيرهم إجابة لسؤال يتكرر دائماً : لماذا الإمارات العربية المتحدة تمثل استثناء؟