السبت 1 أغسطس 2015 / 19:18

هدية الموسيقى العسكرية لمصر



1
كانت حالة عبد الحليم حافظ الصحية غير مستقرة مع بداية صيف 1974، الأمر الذي جعل الأطباء يضعون له قسطرة، وطالبوه بأن يستريح في منزله، وأن يتخلى عن الحركة لفترة.

كان على موعد مع كمال الطويل، وما إن اقترب كمال الطويل من بيت عبد الحليم وجد الأخير يقف في مدخل العمارة بالقسطرة في انتظار سائقه الخاص.

هرول الطويل في اتجاه عبد الحليم منزعجاً متسائلاً "فيه إيه يا حليم؟"، فأجابه حليم والرعشة تسيطر على جسده "علي إسماعيل مات يا كمال".

2
لولا أن والده كان يسحبه من أذنه إلى الحلاق كل أسبوع ما كانت العقدة تجاه الحلاقين لتنمو في وجدان علي إسماعيل، وما كنا لنراه يوماً على الشكل المسجل في ذاكرة التاريخ.

علي إسماعيل متمرد، ما وصلنا من تمرده أنه كان نقطة التحول في شكل الموسيقى في مصر، قبله كانت الألحان جملة موسيقية واحدة تعزفها كل الآلات، ثم صارت الأغنية على يده – كموزع موسيقي- عدة ألحان في لحن واحد، الأمر الذي منح الأغنية المصرية ثراء جديداً عليها، للأمانة يجب الاعتراف أن هذا التغيير وضع سطوره الأولى الموزع أندريا رايدر، ثم أكمل إسماعيل المسيرة بمذاقه الخاص.

لم يهرب فقط من الحلاق، لكنه هرب أيضاً من مدرسة الصناعات البحرية بالسويس، فألحقه والده بالعمل في إحدى ورش القناة، هرب منها أيضاً، لكن هذه المرة باتجاه مدرسة الموسيقى العسكرية، وهناك تعلم أشياء كثيرة أهمها أن يكون للموسيقى شخصية، تعلم في مدرسة الجيش أن الأغنية مهما كانت عاطفية فلابد أن يكون بها خشونة ما .. راجع "وأنا كل ما أقول التوبة" لعبد الحليم.

خرج إسماعيل من المعهد مدرساً، ثم هرب كالعادة، عندما اكتشف أن الموسيقى الكامنة بداخلة لا تستقيم معها فكرة التدريس، كان يعرف أن طريق الموسيقى يبدأ من مكان آخر.

3
كان أول الخيط في المعهد العالي للموسيقى ومن هناك خرج على إسماعيل شريكاً في حلم واحد مع عبد الحليم حافظ وكمال الطويل وأحمد فؤاد حسن .
أما عبد الحليم فقد استقر به المقام في ركن الهواة بالإذاعة المصرية، أما فؤاد حسن فقد تفرغ للعزف بالقطعة في الفرق المختلفة، أما كمال الطويل فقد أصبح مشرفاً على قسم الموسيقى في الإذاعة.

أما علي إسماعيل فقد اختفى تماماً..

كان قد حاول أن يلتحق بالعمل في الإذاعة فقال له أحد المسؤولين: "الإذاعة مش ملجأ روح اشتغل واكبر برة وبعدين تعالى".
كيف يكبر؟

كان لابد من بداية ثالثة، فلتكن من تحت الصفر، من شارع عماد الدين، عازفاً خلف المونولوجستات، خلف اسماعيل يس مرة، وخلف إحسان عبده مرة، إلى أن ضاق يوماً بما يفعله فصاح في وجه إحسان عبده قبل بداية البروفات:"أنا بطلت أعزف المزيكه ال .. دي، أنا ماشي".
قدمت إحسان عبده شكوى ضده لرئيس اتحاد الملاهي الليلية، فأصدر قراراً بعدم العمل معه.

أصبح لدى اسماعيل من الفراغ ما يسمح له بزيارة أصدقائه، عرف يوماً أن "ثريا حلمي" مريضة فذهب ليطمئن عليها، قالت له "نفسي اسمع مزيكا"، ارتبك قليلاً ثم قال لها "في واحد صاحبي كان كاتب غنوة اسمها (عيب اعمل معروف)"، غناها لها وفي اليوم التالي كان يدرب فرقتها على الأغنية التي نجحت بالقدر الذي أعاده إلى الملاهي والحفلات.

إلى أن كان يعزف يوماً ثم وجد كمال الطويل يقف أمامه ناظراً إليه باندهاش، فشعر اسماعيل بحرج ما، وكأن نظرة الطويل قد ذكرته فجأة بأنه يسير في الطريق الذي لا يستحقه.

في صباح اليوم التالي كان اسماعيل يجلس إلى البيانو في الإذاعة يعزف ويغني بصوته الجهوري إحدى أغنياته، وما إن انتهى منها حتى قفز عبد الحليم من مكانه قائلاً "أنا اللي هاغني الكلام ده"، غنى "يا عاشقين يا مغرمين" وكانت دخلة حليم على المجد .
بعدها بأيام اقترب منه مطرب جديد طالباً لحناً، وبعد أن انتهى من غنائه لم يرض عن نفسه وصارح اسماعيل بذلك، فقال له اسماعيل بداخلك موسيقى أكبر من مجرد الغناء.

بعدها بسنوات كان على اسماعيل ومحمد فوزي يصطحبان هذا المطرب ويدخلان به على أم كلثوم، وقال لها "ده ملحن مصر القادم .. اسمه بليغ حمدي".

4
أكره أن أذكرك بما قدمه علي إسماعيل للموسيقى المصرية، يفترض أن تكون على علم بالحد الأدنى من إنجازات واحد من أهم صنايعية مجاله، لكن لا بأس.

أم ألحانه فما بين الوطنيات "رايحين في إيدنا سلاح" و"أم البطل" والأغنيات المرحة "حلاوة شمسنا"، أما عن التوزيع الموسيقى فحدث ولا حرج، بداية من "وطني الاكبر"، مرورا بـ "السد العالي" و"المسئولية" و"صورة" و"مطالب شعب" وضع ما تشاء من أغنيات عبد الحليم وألحان عبد الوهاب والطويل والموجي في هذه الفترة، بداية من جبار نهاية بقاضي البلاج ودقوا الشماسي وخايف مرة أحب.

أما إنجازه الفني الأقرب فكان "فرقة رضا" التي احتكر كل ما يخصها من أعمال الموسيقى سينمائياً ومسرحياً وحفلات، تلحيناً وتوزيعاً وشريكاً في النجاح.

أما عن السينما فعندك أكثر من 350 فيلماً ألف لهم الموسيقى التصويرية، لا تبدأ بـ "الأرض" و"العصفور" ليوسف شاهين، ولا تنتهي بـ "غرام في الكرنك" و"الأيدى الناعمة" و"معبودة الجماهير".

5
لم يكن اسماعيل يهوى إيقاف بروفاته، لذلك عندما تسلل بليغ حمدي والمخرج حسين كمال إلى المسرح جلسا في صمت إلى أن أنهى اسماعيل عمله فصفقا له بحرارة.

قال لهم اسماعيل "مزيكا فيلم مولد يا دنيا هتكون جاهزة النهاردة" ثم عطس، ثم قال "وسنسجلها قبل ما أسافر موسكو" ثم عطس، ثم ابتسم لهما ابتسامة واسعة، ثم سقط في مكانه، فسرت في الجو لسعة برد.