الأحد 1 نوفمبر 2015 / 21:35

الشعر والمعنى

حاول بعض النقاد العرب في العقود الأخيرة، ومن خلال قراءاتهم وتأمّلاتهم الخجولة في تحولات الشعر والنثر معا، دراسة جانب من التطورات البنيوية والجمالية التي تحققت للقصيدة العربية الحديثة على أيدي عدد من الاسماء والتجارب الشعرية العربية. أتخيل -وربما تكون نظرتي خاصة وهي عرضة لأن تقارن بنظرة أخرى أو تمتحن بإزاء أفكار مخالفة- أن الشعر أصبح أصفى وباتت رهافته أكثر بروزاً، رغم التعقيد اللغوي الذي ميّز بعض أفضل التجارب الشعرية العربية الجديدة.

قراءة بعض أفضل نصوص الشعر المكتوب خلال العقود الأخيرة تمكننا من ملاحظة جملة من الأشياء، أولها أن شاعر القصيدة الحديثة، حرر نفسه من وطأة فكرة الوظيفة، بعدما قطع شوطاً بعيدا في تحرير شعره منها. لم يعد الشاعر العربي يأبه للمقولات القديمة، ولا للممارسات النقدية التي كالت لشعره الاتهامات. لكن ذلك لم يمنعه أبدا من اقتحام أرض الصراع الإنساني مع قوى الشر والاستبداد والجريمة، والتعبير من ثمة، بلغة جديدة، عن التراجيديا الإنسانية بوصفها تراجيديا شخصية.

وبالتالي لم يعد الشاعر العربي الحديث آبهاً بتلك التقولات عن فراغ الشعر من المعنى، وهي انطباعات ظالمة تورط بإبدائها والترويج لها نقاد كانوا في بداياتهم من أشد المتحمسين للتحولات البنيوية العميقة التي شهدها الشعر في الثقافة العربية منذ مطلع القرن العشرين، لا سيما مع تجارب جبران والريحاني والمهجريين وجماعة أبولو وصولا إلى شعراء القصيدتين "الحرة" و"النثر".

ومن حسن طالع الشعر أن الشعراء العرب الجدد حسموا أمرهم مع ذائقة القراءة، واعتبروا أن الشاعر لم يعد مطالباً، أبدا، بأن ينطق باسم قبيلة أو جماعة، أو جمهور كبير أو صغير. لقد تحرر الشعر، في نظرهم، مرة وإلى الأبد، من الأغراض، وتحرر الشاعر من الطلبات الاجتماعية.
لم يعد الشاعر لا سارداً ولا مؤرخاً، ولا إعلامياً. ولم تعد القصيدة حمالة رسائل تنتجها لغة الشعر نيابة عن اللغة الاجتماعية. الشعر لم يعد يطالب نفسه بأن يكون ممتحَناً خارج نفسه. ولكن شعره في النهاية وثيقة جمالية.

هذا لا يعني، بتاتاً، أن الشعر تحول إلى ظاهرة بلّورية صافية ومعزولة عن العالم، بل بالعكس لقد بات في وسعه أن يشفّ ويعبّر ويتوهج أكثر، ما دامت طبيعة علاقة الشاعر بلغته قد تغيرت استناداً إلى رؤى واختبارات ومواقف أسقطت جلّ الحواجز الاجتماعية التي ظلت قائمة بين الشاعر وعالمه، والشاعر ولغته والشاعر وصنيعه الفني، وهو ما غيّر بالضرورة منطق العلاقة مع اللغة ومفهوم الشاعر عن الشعر.

لكن هذا لم يحدث من دون التباسات وتعقيدات أدخلتها تجربة الشعر الحديث على تلقّي الشعر. ولنتخيل، الآن، قصيدة تسمّى "القصيدة الحرة" ويحار فيها القرّاء، فلا يستطيعون أن ينفوا عنها شعريتها ولا يعرفون كيف يؤكدون هذه الشعرية.

وفق أيّ مقاييس سيفعلون، وقد كسر الشاعر المقاييس القديمة للشعرية التي قرّت عليها ثقافتهم، بل وتجرأ حتى على تلك المقاييس الجمالية الجديدة التي ولّدتها تجارب أواسط القرن العشرين، مع شعر شعراء كالسياب والملائكة وحاوي ونزار قباني، وغيرهم.

لكن هذه الحيرة هي في نظري حيرة خلاقة، حيرة ضرورية، فلمَ لا يكون الشعر عصياً إلى هذه الدرجة أو تلك، إن في تعريفه، أو في الاستدلال عليه؟ لمَ لا يكون الشعر نبع الأسرار والغوامض والخيالات الغريبة، وهو ينطق بمجاهيل النفس البشرية؟ أليس في مسلك الشعر على هذا النحو اعتراف عظيم الأهمية بفرادة البشر وغنى أعماقهم، ودعوة ، بالتالي، إلى اعتبار كلّ كائن من كائنات العالم قارة مجهولة وعلى الشعر أن يساعدنا على تلمس الطريق لاكتشاف تلك القارة؟

لكن هل ينبغي أن تعفينا مثل هذه التصورات من طرح أسئلة أصعب عن مدى إخلاص الشاعر لنفسه ككائن اجتماعي بينما هو يخلص لنفسه كشاعر؟ وعن موقف الشاعر من عالمه وإنسانه، بينما عالمه يتمزق وينهار أخلاقياً، وإنسانه يحترق في أفران الاستبداد ويسجّى جثمانه الجماعي في أرض خلت منها الرحمة وزالت عنها كل حكمة. هل يمكن قبول فكرة كتابة الشعر في أزمنة الخراب والفظاعات والزوال من الوجود باللغة نفسها التي كتب بها من قبل، عندما كان كل شيء يبدو آمنا، وكان القلق هو الفكرة الوجودية القصوى.

العرب اليوم، جميعهم، واقعون في فخ نصبته لهم الأمم، وأوصلتهم إليه تجاربهم الأليمة. صورهم العائلية على جدران بيوتهم تنزف دماً، والجماعة الإنسانية كلها في عراءِ مهبِّ وجودي غامض. فبأي لغة سيكتب شاعرهم الشعر؟ سؤال صعب لا ينفرد في الإجابة عنه شاعر، ولا مقال ولا كتاب. إنه سؤال ملغز يضرب في المجهول، لكنه مفتوح على المغامرة.

فبأيّ لغة سيكتب الشاعر العربي شعره إن لم يكن بأسئلة الوجود رداً على لغة الإبادة؟