الأحد 8 نوفمبر 2015 / 20:33

أدب السيرة الذاتية في "سجينة طهران"

مازلنا في رحاب هذه الرواية الواقعية الموجعة البديعة "سجينة طهران" لكاتبتها وبطلة حكايتها السجينة الإيرانية "مارينا نعمت" التي دخلت ظلمة المعتقل في السادسة عشر من عمرها، قبل تمكنها من الهرب إلى كندا بعد سنوات موجعات ذاقت فيها من الويل ما ذاقت. ولأنها قصة واقعية، فإنها تنتمي لأدب السيرة الذاتية الذي يُعدّ شحيحاً في مجتمعنا العربي لأسباب عديدة. نحاول أن نقارب ذلك اللون الأدبي النادر ونتعرف على ملامحه الثرية. أدب السيرة الذاتية، هو لونٌ من أجناس الأدب يؤرخ فيه المؤلفُ سيرته الشخصية، لما قد تحمله من فلسفة ما، أو حكمة أو موعظة أو تجربة قد يُفيد منها العامة. وهو من فنون الأدب التوثيقيّ التقريريّ.

الراوية السارد، عادة ما يتكلم بضمير المتكلم، أو ضمير الغائب. قد يرويها صاحبها بنفسه، مثل رواية "الأيام"، رائعة "طه حسين"، أو يكتبها كاتب عن حياة كاتب آخر، مثل أدب التراجم. قد يضفِّر الكاتب الحقيقة بخيوط الخيال؛ من أجل تبرير أخطاء ارتكبها، كما فعل "چان چاك روسّو" في "الاعترافات"، أو، على النقيض، قد تخرج السيرة الذاتية اعترافيةَ المزاج، صادمةً فجّةً، دونما شعور بالخطيئة، مثلما وجدنا في "مذكرات لصّ" للفرنسيّ "چان چينيه"، أو "الخبز الحافي" للمغربي "محمد شكري". أو قد تتمحور السيرةُ حول التجربة الروحية والتحليل الفلسفيّ الاستقرائيّ الاستبطانيّ للنفس البشرية وأحوالها مثل "اعترافات القديس أوغسطين". هذا على المستوى المضمونيّ. أما على مستوى الشكل الفنيّ والأسلوبيّ، فقد تأتي الروايةُ السيرُ-ذاتية نثرًا؛ مثلما وجدنا لدى العقاد والمازني وطه حسين وسواهم، وقد تكون ملحمة شعرية تحكي تجربة الإنسان الشخصية كما في قصيدة: "الانعزاليّ" The Recluse، للشاعر الإنجليزي "وليام وردزورث".

ونظرًا للتعددية الأجناسية لألوان الكتابة الأدبية للسيرة الذاتية، فقد تتداخل أحياناً تلك الألوانُ وتذوب الجدرانُ الفاصلة بين السّيرة الذّاتيّة، والمذكّرات، واليوميات، والرّواية الشّخصيّة، وقصيدة السّيرة الذّاتيّة، والبورتريه الذّاتي، ثم علاقة كل ما سبق بفنّ الرّواية كما نعرفها. كما أن نظرية "الكتابة عبر النوعية"، تساهم كثيراً في تداخل خيوط كل ما سبق، ومن ثم الافتقار إلى معايير محددة حاسمة للفصل فيما بينها. على أن الملاحظ أن السّيرة الذّاتيّة، قد تقترب من سرد أحداث شخصيّة، بقدر ما تبتعد عن سرد الأحداث العامّة، في حين تركّز المذكّراتُ واليومياتُ غالبًا على تدوين الأحداث، عامةً أو خاصة، دون التّعليق على الحياة الشّخصيّة لكاتب المذكّرات.

على أن الزّمن المرويَّ في الرواية قد يعد معياراً للفصل بين السّيرة الذّاتيّة واليوميّات. فالسّيرة الذّاتيّة عادة ما تنسج خيوطها في فترة محددة من حياة الكاتب حدثت فيها التجربةُ الأهم أو الأنصع، في حين تسبح اليوميّات في لجّة الأحداث يوماً بيوم، دون تراتب قيميّ لأهمية هذا الحدث أو ذاك. على أن الجنسين عادة ما ينطلقان من الحاضر إلى الماضي، ومن لحظة الكتابة صوب الفترة الزمانية للتّجربة المعنية. لهذا فإنّ المساحة الزّمنيّة الّتي تفصل بين لحظة الكتابة وزمن التّجربة؛ تكون في السّيرة الذّاتيّة أوسع منها في اليوميّات.

المكان والزمان في سجينة طهران
مما سبق نجد أن "سجينة طهران"، تنتمي إلى أدب "السيرة الذاتية"، أو الرواية السير-ذاتية. تنطلق الأحداثُ من اللحظة الراهنة (لحظة الكتابة، أو اتخاذ قرار الكتابة)، بعدما برأت الكاتبةُ، أو كادت أن تبرأ، من ذلك الكابوس الجاثم على ذاكرتها جرّاء رحلة عذابها في معتقل طهران. لحظة الكتابة هنا، جاءت بعد عشرين عامًا من "الحدث" أو مُحفّز الكتابة ومفجرها.

وأما مكان الكتابة، فلم يكن هو ذاته مكان الدراما، (عنبر رقم 246، أو الزنزانة الانفرادية رقم 27، أو غرفة الإعدام التي نجت منها بأعجوبة) بل كانت في المنفى الاختياري، كندا، الذي فرّت إليه مع زوجها الثاني، الزوج الحقيقي، وطفلها ابن العامين.

على أن مسرح الأحداث الرئيس، يظلُّ هو طرقات المعتقل وعنابره وزنازينه، تناوشه أماكنُ أخرى مثل كوخ العائلة على الشاطئ، وصخرة الصلاة، التي كانت تهرب إليها كلما أرادت أن تذهب إلى الله، والتي سوف تخبئ في جوفها خاتمَ زفافها بعد موت الزوج الجلاد، مع ناي "أراش"، والعقد الذي منعه الموت من أن يهديه لها، مع كل ما تخبئه فيها من أسرار صغيرة، وكذلك فصول المدرسة الثانوية، وساحات التظاهرات، وغرفة جدتها الروسية في بيتهم بطهران، والمكتبة المجاورة التي كان صاحبها الكهل الطيب "ألبرت" يزودها فيها بالقصص الملونة، وقد كانت تلك الكتب رفيقتها الأثيرة، وربما الوحيدة في تلك المرحلة النقيّة، قبل خوض التجربة المرّة. وللحديث بقية.