الجمعة 13 نوفمبر 2015 / 18:50

لغة الشعر لغة الأسئلة

كلما طرح سؤال يتعلق المغامرة الشعرية العربية في أطوارها الأخيرة، أبدى شعراء ونقاد ملاحظات غلبت عليها الأسئلة عن المسافة بين حرية الشاعر وكيان اللغة، وعن المغامرة الشعرية وعلاقتها بالزمن والتجارب الإنسانية. والواقع أن هذه وغيرها من الأسئلة، بما في ذلك السؤال الذي لا ينفكّ يطرح حول وظيفة الشعر، ستظل تطرح مادام هناك شعراء وقصائد وقراء يحبون الشعر.

على مدار تاريخ كامل أشاعت ثقافة تلقي الشعر، في مجتمعات الثقافة العربية اعتقادا بأهمية أن تكون للشعر وظيفة. هذا الفهم الذي يجد سنده في الممارسات الشعرية نفسها، اصطدم في النصف الثاني من القرن العشرين على نحو غير مسبوق بالمفاهيم الجديدة التي فرضتها تحولات دراماتيكية أفصحت عنها لغة الشعر مع ما سمّي أولا بـ"القصيدة الحرة" وتاليا بـ"قصيدة النثر".

وفي الربع الأخير من القرن العشرين، في ظلّ التطورات التي عرفتها حركة الشعر الحديث في عواصمه الكبرى، بغداد، دمشق، القاهرة، بيروت وظهور تجارب أكثر راديكالية في الكتابة شاعت معها مناخات جديدة عرفتها حركة الشعر العربي، خلص الشعراء الجدد ونقادهم إلى أن ما ظلَّ يحدّ من جموح الشعر ومن مغامرته وحريته اللغوية، وبالتالي من انفتاحه على العالم والأشياء، إنما وقوع السواد الأعظم من جمهور الشعر في أسر فكرة الوظيفة، وهي فكرة قديمة ارتبطت، أساساً، بتقاليد وأعراف ثقافية في تذوق الشعر أفلت وأفل زمنها.

اكتشف الشعراء الجدد أن انعكاس العالم في الشعر هو خير دليل على مدى ارتباطه بعالمه وزمنه، وأن تعبير الشاعر عن ذاته الفردية، وأناه العميقة، وانفعاله الشخصي بعالمه، في لغة مبتكرة، هو أساس التجربة الشعرية، أمّا “الوظيفة” التي دأب بعض النقاد على مطالبة الشعر الالتزام بها، فهي تطالب الشعر بأن لا يتغير، ليواصل تقاليده القديمة، بل تطالبه بالصعود إلى سطح الأشياء، متخليا عن الأعماق التي تضطرم في اللغة والشعور والوجدان.

بالمقابل عندما نتحدث عن انعكاس العالم في اللغة وتجلّي الأشياء في الشعر، إنما نلامس خواصها ومساحاتها المنظورة وكذلك تلك المتوارية في غلالات اللغة ووراء المنظور من أسرارها وأسرار الخيال الشعري.

إن أجناسا فنية وأدبية وجمالية أخرى غير الشعر، مثل التشكيل والرواية والمسرح إنما تتموضع في مساحات من اللغة والتعبير، وفي تراكيب وعلاقات أكثر منطقية ومباشرة ممّا يمكن أن نكتشف في الشعر.

ومن المثير للتأمل أن هذه الأجناس الإبداعية باتت تتيح للشعري أن يظهر هنا وهناك في ملامح منها. وبينما هي تقوم بجانب من الوظائف المطلوبة في المجتمع، وظائف محتملة، فإنها تتيح، في الوقت نفسه، للشعر أن يتحرر أكثر فأكثر، ويخلص لنفسه، ويتسامى في مغامرته بعيدا عن الفكرة الآسرة للوظيفة.

ولعل من فضائل المغامرة الشعرية الحديثة أنها خلَّصت الشعر من الأعباء القديمة في نقل رسائل المجتمع، وجعلته أقرب إلى نفسه أكثر. وها هو الشعري، من ثمة، يتجلى في الرواية فضاءً يجنّح النثر، بينما هو في الشعر، كما برهنت تجارب الشعراء الجدد، يفجر طاقة النثر، محاولا توليد الشعر عبر وسيط نثري.