السبت 21 نوفمبر 2015 / 18:42

"اسكتوا حتّى لا نراكم"

انتظرت قليلاً قبل الكتابة حول هجمات باريس حتى تخفّ الضجة المثارة حول ما حدث، ولا يضيع صوتي بين آلاف الأصوات المندّدة بالجريمة الوحشية التي تعرضت لها عاصمة النّور والتنوير. أمّا السبب الآخر، والأكثر أهميّة، لصمتي، وأنا الذي تعودّت على الثرثرة كثيرًا بمناسبة وبدون مناسبة، فهو أنني انتهزت هذه الفرصة لتحليل وتصنيف هذه الأصوات المندّدة وعقليات أصحابها.

عندما شاهدت المقاطع والصور التي تداولتها وسائل الإعلام، أحسست برغبة عارمة في أن أصرخ قائلاً: أنا أيضاً تجولت في هذه الشوارع، وتناولت العشاء في هذه المطاعم، وزرت هذه المسارح، ولكنني عوضاً عن ذلك اكتفيت بتغريدة بسيطة أعبّر فيها عن حزني وعزائي الصادق لفرنسا ولكل من يحبها.

جاءني الرّد سريعاً، بل وأسرع من الوقت الذي استغرقته الرصاصات الغادرة للانطلاق من فوهات بنادق المجرمين لتستقر في أجساد الضحايا.

"لا تبالغ في حزنك أيها التغريبي"
هذا الرد يمثل الفئة الأولى من تلك الأصوات المنددة التي ذكرتها في بداية المقال، وأصحابها يكوّنون آراءهم، دائماً، ويبنون مواقفهم على مخالفة آراء ومواقف من يختلفون معهم. فإن امتدح كاتبٌ تنويري أو مثقّف مستقلّ أمراً ما ذمّوه، وإن ذمّه امتدحوه، وفي نهاية المطاف بعد أن يظهر لهم أن الدولة تتفق في توجهاتها مع توجهات هؤلاء الكتّاب، كما حدث عندما أضاءت مباني أبوظبي ودبي والعين بألوان العلم الفرنسي، يعودون لتغيير آرائهم لتتسق مع التوجهات السياسية للدولة والتي بطبيعة الحال لا تختلف كثيراً عن توجهات هؤلاء الكتاب والمثقفين الإنسانية. هذا النوع من الأصوات، حتى لو ملأت الدنيا بكاء ونحيباً، لا يمكن أن تؤخذ على محمل الجد لأنها مزيّفة وتنقصها المصداقية، فأصحابها يتحمسون للقضايا بسرعة، ثم يعودون بنفس الحماس والسرعة للتخلي عنها.

الفئة الثانية من هذه الأصوات، فئة ماكرة ومخادعة، فهي ستبدأ بلعن كل هؤلاء الإرهابيين والساعة التي خرجوا فيها إلى الوجود، ولكنها ستتبع ذلك بكلمة "ولكن..."، ثم تشنّ انتقادات صريحة أو ضمنية للغرب، وتسرد بالتفصيل أرشيف الممارسات الأوروبية ضد المسلمين منذ الانفجار العظيم الذي نشأ عنه الكون، وبعد أن غادر آدم الجنّة، وقبل انقراض الديناصورات إلى يومنا هذا. يفعلون ذلك للتغطية، وللتبرير، ولإضفاء نوع من الشرعية على الجرائم التي يرتكبها المسلمون في أوروبا من باب المعاملة بالمثل. فإذا كان الغرب يرتكب كل هذه الشرور في العالم، فينبغي، بحسب هذه الأصوات، أن يُسمح لنا بارتكاب ذلك -وأكثر- في عقر دارهم.
أما الفئة الثالثة والأخيرة، التي يتسع المقام والمقال للحديث عنها، فهي فئة عنصرية تظنّ أنها تمتلك الحقّ في إجازة أو رفض أي تعاطفٍ يبديه عربي أو مسلم، فقبل أن تعبر عن حزنك على ضحايا باريس يجب أن تستخرج رخصةً من هذه الفئة اللعينة تثبت فيها بأنك حزنت قبل ذلك على ضحايا المسلمين (يجب أن يكونوا مسلمين دائماً) في العراق وفلسطين وأفغانستان وسوريا وبورما ... وجزر الواق واق!

تنسى هذه الفئة التي تحللت وتحررت من القيم الإنسانية أن رسول الإسلام وقف لجنازة يهودي بدون أن يسأل عن ديانة صاحبها، لأن للموت حرمته وللإنسانية احترامها، أما هؤلاء فسيختلفون في حكم الوقوف دقيقة صمتاً وحداداً على أرواح قتلى غير المسلمين حتى ينسونك فداحة الفاجعة.

كنت على وشك أن أختتم المقال، ولكنني تذكرت في اللحظة الأخيرة بأنني نسيت أن أتحدّث عن فئة تشكّل غالبية الأصوات المندّدة، وهي الفئة التي تتنصل دومًا من مسؤوليتنا كمسلمين عن الجرائم التي يرتكبها الحمقى باسم الإسلام. هذه الفئة التي يشكل غالبيتها رجال دين ستنكر بأن يكون هؤلاء الإرهابيين ممثلين للإسلام، ولكنها في نفس الوقت ستستنكر أي محاولات جادة لمراجعة التراث الإسلامي وتنقيته من الكتب والفتاوى التي شكلت وتشكل المرجعية التي يهتدي بظلامها هؤلاء المجرمين!

لكل هذه الأصوات التي ذكرتها، وتلك التي فاتني أن أذكرها، أقول ما قاله يومًا الفيلسوف سقراط -بتصرّف- : اسكتوا حتّى لا نراكم!