الإثنين 7 ديسمبر 2015 / 18:51

أقنعة الشاعر

لماذا تكتب من وراء أقنعة أسطورية وأدبية. كثيراً من واجهني قراء ومحبو شعر بهذا السؤال. والواقع أنني كتبت مراراً حول هذا الأمر. محاولاً تلمس المسألة، ليس بحثا عن أسباب، ولكن بحثاً في علاقة الشعر بالأساطير، وعلاقة الشعراء بالأقنعة الأسطورية. وبالتالي ليس بحثاً عن جواب لسؤال، لا سبيل في النهاية لإعطاء جواب عنه يشفي غليل السائل، مادام الشعر نفسه ضرباً من الغوص عميقا في الذات بحثاً في ماوراء الأشياء المنظورة، وربما هو ضرب من التهويم والتيه ما وراء كل الأسباب.

لذلك لطالما وقفت حائراً أمام هذا السؤال. ولكن مرات يخيل إليّ أنني أخطو جهة الأقنعة لأكون نفسي أكثر. ابتعد قليلاً أو كثيراً عن صورتي، لأتحرر منها، فإذا بالصور والأقنعة تناديني؛ أقنعةً فرعونيةً وهيلينية وآرامية ومعها القناع الشيكسبيري، ومن ثم تتحدر من أعالي اللغة مع الكلمات أسماء: مثل سيبتيموس سيفيروس، أوزوريس، تيريسياس، ديدالوس، يوسف، تيلماخوس، إيكاروس، نرسيس، بينيلوبي، آخيل، أورفيوس، مريم، يوحنا المعمدان، هاملت، اليعازر، وغيرهم آخرون، بما لكلٍ منهم من إحالة ورمز وتاريخ ميثولوجي ودلالي: "التراث الأسطوري، سواء أكان عراقياً أو سورياً أو فرعونياً او إغريقياً، أو إسلامياً ومسيحياً وغيره هو تراث شخصي لي. لكوني من أبناء المتوسط، قلب العالم القديم، وفي القلب منه سوريا القلب الخافق للعالم القديم"، وبالتالي، فإن كل ما أبدعته قرائح ناس المتوسط، لاسيما على الضفة الشرقية هي إرثٌ شخصي لي، وهو ما يجعلني أتحدر بالضرورة من صلب هذه اللوحة البشرية الرائعة بخيالاتها الميتافيزيقية وهيامها بالجمال، ولعل هذا الانتماء هو ما أورثني ولعا منذ طفولتي بالأساطير والحكايات والملاحم التي أبدعتها حضارات المتوسط، وللجغرافيا السورية القديمة نصيب كبير في هذا الإبداع.

من هنا، على الأرجح بدأت عندي العلاقة بالمادة الأسطورية وبالنسيج الحكائي البطولي والمأساوي على نحو خاص. ثم تطورت هذه العلاقة حتى شملت، في اهتماماتي، الصياغات والمعالجات التي قام بها الأدباء والمسرحيون في العالم كشيكسبير أو جوتة أو دانتي وغيرهم، وقد استنلهموا كل بطريقته هذا الإرث الرائع.
لكن الأساطير، بالنسبة لي، ليست معطيات كلاسيكية. أنا لا أتعامل شعريا مع تلك النصوص وشخصياتها الاسطورية كمعطيات نهائية، بل كعوالم وأرواح متحركة ومتبدلة وقابلة للولادة مجدداً في صياغات شعرية خاصة.

ولو ذهبنا أبعد، فإن الكتابة الشعرية، كما تتجسد لي فكرة وممارسة وعملا مع اللغة وأخيلتها، والإرث الأسطوري وأيقوناته، إنما تحمل قابليات وإمكانات أوسع بكثير من المعطي الناجز للصورة القديمة او الأيقونة في زمنها. إنها بحث دائم في تلك الملامح الأسطورية عما يتمتع بالطاقة المشعة، اللغز الإنساني المنعكس في حيرة الشاعر وحيرة الفنان وهما يعيدان صياغة الواقعة الإنسانية في احتمالات وميول ونزوعات تتوارى كلها وراء الصورة المنظورة للأيقونة، وتتحول إلى أشباح وظلال ملغزة، إلى احتمالات مكبوتة في مكان ما، لابد من تواريخ تمر حتى تكتشفها عين جديدة، عين شاعر قادم من زمن آخر يتلمس بأصابعه كنحات ويكتشف بحواسه تلك الندبة السرية التي ما أن يلمسها حتى تضيء الأيقونة بنور جديد، حتى تولد ثانية ومعها روح جديدة هي روح عصر جديد.

ما من فضل لنا أبداً، كشعراء، لو نحن اكتفينا بنسج أجنحة إيكاروس بلغة عصرنا، مهما كنا بارعين في إعادة تصوير الواقعة. لابد من شيء آخر، شيء أقوى واعمق واكثر إبداعية، لابد أن نتصرف كشعراء على نحو يمكننا من أن نجعل هذا الإيكاروس يولد من جديد هو وأجنحته وحلمه بالحرية.