الخميس 18 فبراير 2016 / 18:11

أبكار السقّاف.. مفكرة تنويرية من شبه الجزيرة العربية

كان بدء تعرفي إلى أبكار السقّاف (1913_1989) في عام 1996 أي قبل عام واحد فقط من انتظامي بالدراسات العليا لنيل درجة الماجستير من كلية الآداب بالجامعة الأردنية. ولم أكن أعلم عند عثوري على عدد ممتاز عن السيرة الذاتية أصدرته مجلة "القاهرة" في ذلك العام أنني وبعد بضعة أشهر من ذلك التاريخ سأتناول أبكار السقّاف بوصفها واحدة من أبرز المفكرات التنويريات العربيات عند انبثاق عصر النهضة العربية الحديثة، وسيكون تناولي لها مع مجموعة من النهضويات العربيات الرائدات في مساق "الأدب النسوي". وهو موضوع خاص في الأدب؛ إذ يختار أستاذ المساق في كل عام موضوعاً معيناً يراعي فيه الطرافة والجدة، ويكلف الطلاب بأبحاث معمقة في هذا الموضوع ثم تُعرض أوراق الطلبة في حلقات نقاشية "سيمنارات". وكان الموضوع الذي اختير عندما التحقتُ بالدراسة "الأدب النسوي: النظرية الغربية والتطبيقات العربية في الرواية والسيرة الذاتية والقصة القصيرة". كدت أقفز من الفرحة عندما أعلن أستاذ المادة عن الموضوع المختار، ولكنني اكتفيتُ بالابتسامات الغامرة التي رحت أوزعها على زميلاتي وهن يقلن لي "شكلك مبسوطة! فقلت لهن: أي والله مبسوطة كتير! كتير!". كان اسم أبكار السقّاف يتوارد إلى ذاكرتي. ولكن ماذا أفعل وأنا بعيدة عن مكتبتي في البحرين! وتفصلني عنها آلاف الأميال! وفي اتصال سريع رجوتُ من والدي العزيز إرسال المادة البحثية بأقصى ما يستطيع من السرعة، وقد فعل مشكوراً، وماهي إلا بضعة أيام حتى وصلتني حقيبة كتبي من البحرين مشحونة بنفائس الأدب النسوي من كتب نقدية في النظرية ومقالات وقصاصات صحفية جمعتها على مدى سنوات، والأهم من هذا كله أعداد من مجلة "الكاتبة اللندنية" في محاورها النسوية وعددي الأثير من مجلة" القاهرة" وموضوعها عن أبكار السقّاف!

وبعد الدكتوراه عاودتني أبكار السقّاف مرة أخرى في عدد من مجلة "حقول" السعودية صدر في سبتمبر 2007، وقد تخصّص محوره عن المرأة وثقافة الجزيرة العربية من خلال التأسيس والريادة. وبذل الكاتب السعودي أحمد الواصل جهداً مشكوراً في تتبع البدايات التنويرية النسوية الأولى في منطقة شبه الجزيرة العربية. وجاء اسم أبكار السقّاف تالياً لاسم الرائدة البحرينية عائشة يتيم رغم ميلادهما في السنة نفسها(1913)، ورغم إصدار السقّاف لمجموعة مهمة من الكتب ومعاصرتها لأقطاب الثقافة العربية آنذاك، ولكنني أحسب أنَّ الذي دعا الواصل إلى هذا الترتيب هو انتماء عائشة يتيم إلى الخليج العربي في حين أنَّ أبكار السقّاف عاشت جلَّ حياتها في مصر بعيدةً عن موطن آبائها وأجدادها في شبه الجزيرة العربية، وبالتالي فهي مصرية التنشئة الثقافية رغم جذورها الحضرمية، وهي لم تستقر في الكويت إلا فترة بسيطة في زيارات عائلية لشقيقتها الصغرى وصديقتها المقربة الفنانة التشكيلية ضياء السقّاف.

وفي السنوات التي تلت حصولي على درجة الدكتوراه قرأتُ بعمقٍ أكبر مؤّلف السقّاف الموسوعيّ المهم: "نحو آفاق أوسع_العقل الإنساني في مراحله التطورية" بأجزائه الأربعة الصادرة في نسختها الأخيرة عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت عام 2004، وأجزاء الموسوعة الأربعة هي (الدين في مصر والعصور القديمة وعند العبريين، والدين في الهند والصين وإيران، والدين عند الإغريق والرومان والمسيحيين، والدين في شبه الجزيرة العربية). وهي الموسوعة التي أثّرت في كتابات بعض المفكرين المصريين ومنهم سيد القمني الذي اعترف مؤخرًاً بتأثير أبكار على مسار كتاباته وخاصة كتبها "الأسطورة والتراث"،"إسرائيل"، "النبي موسى" و"آخر أيام تل العمارنة"! وأدعوكم إلى قراءة كتابه "إسرائيل التوراه التاريخ التضليل" كي تدركوا أثر أبكار السقّاف في كتاباته وكتابات غيره.

لكن من هي أبكار السقّاف؟ وما علاقتها بالرائدات والرواد التنويريين العرب الأُول في بدايات القرن العشرين؟ يقول الكاتب المصري مهدي مصطفى الذي كتب مقالاً تعريفيًا عن أبكار السقّاف في مجلة "القاهرة" وعنونه بومضات" لم يشأ القرن العشرون أن ينتهي حتى يدهشنا بالمخبوء في أحشائه، وكأننا_ وفي هذا العدد بالتحديد، على موعد مع المفاجأة‘ إذ يتم تقديم أبكار روح الحياة السقّاف، إحدى الكاتبات التي تم غيابها زمنًا طويلاً، وهي تستحق أن تكون في المقدمة، وعلى رأس كوكبة من المفكرين وكما قال عنها عبّاس العقّاد: إنها امرأة بعشرة رجال. ولكن منذ أن اكتشفتُ في شتاء 1995 وجود أبكار السقّاف الكاتبة، ومن خلال اتصال بالفنانة ضياء السقّاف شقيقتها الصغرى وأنا في حالة ذهول من غيابها عن الحياة العقلية العربية الذي يكاد يكون متعمداً، ولقد اكتشفتُ أيضاً في كتاباتها التي تم نشرها ثم مصادرتها بعد ذلك، أنها قد أثّرت في كثير من الكتاب المصريين"!

تعود جذور أبكار السقّاف إلى حضرموت من الجزيرة العربية. وأسرة السقّاف من الأسر الحضرمية العريقة التي تعود أصولها إلى الحسين بن علي رضي الله عنه. وقد هاجرت هذه الأسرة إلى بلدان عدة وأثّرت فيها سياسياً واقتصادياً. ووالد أبكار هو محمد بن سعيد السقّاف أحد رجالات الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي عام 1916. وقد استقر والدها في مصر وتزوج سيدة تركية هي والدة أبكار وضياء ومصطفى السقّاف. وعاشت أبكار حياة أرستقراطية مرفهة فقد تلقت التعليم في إحدى المدارس الفرنسية العريقة، وأتقنت اللغة الإنجليزية إلى جانب الفرنسية والعبرية. و ساعدتها معرفة هذه اللغات على الاطلاع فيما بعد على كتب الفلسفة والأديان والتاريخ والطب والفلك المكتوبة بتلك اللغات إلى جانب التعمق في حضارات الشرق الأدنى وتواريخها وقراءة العهد القديم"التوراه". وأهلتها هذه التنشئة كي تؤلف كتاباً يعد من أعمق الكتب المؤلفة عن فلسفة الأديان والأديان المقارنة.

ومن المفارقات المحزنة في حياة أبكار السقّاف_ على الصعيد الشخصي_ أنها كادت تكون ملكة على ليبيا إلا أنَّ هذا الأمر لم يتم! ففي عام 1929 تمت خطبة أبكار على إدريس السنوسي أمير برقة آنذاك قبل أن يصبح ملكًا على ليبيا، وفُسِخَت هذه الخطبة بعد عام واحد بسبب اختلاف التوجهات السياسية بين والد أبكار والأمير الليبي! فقد تشاجر والد أبكار مع خطيبها الأمير وطلب منه أن يفسخ فورًا خطبته من ابنته! ولكن يبدو أنَّ أبكارًا لم تستطع نسيان هذا الحب الأول! وقد تذكرته في أخريات حياتها وصرَّحت بحبها العميق للسنوسي الذي لم يكتمل بنهاية سعيدة! ولعلّها مشيئة الله الذي يقدر الأقدار فلو كانت أبكار زوجة للملك السنوسي فلن تُذكر إلا بوصفها زوجة ملك فقط وليست أبكارًا المفكرة المختلفة! وأخمن أنَّ أبكارًا بشخصيتها القوية المستقلة الخلافية المتمرِّدة والمسكونة بالشك ما كان لها أن تكون أسيرة بلاط ملكي لملكيات تقليدية مرتبطة بالأعراف القبلية والتقاليد الصوفية كما هو حال الملكية السنوسية آنذاك! فقد كانت شعلة ملتهبة من المعرفة الخلافية!

تزوجت أبكار مرتين من رجلين ينتميان إلى أصول تركية ولكنها فقدتهما ولم تقضِ إلا مدة بسيطة مع كل واحد منهما؛ فالأول هو مصطفى الخربوطللي الذي توفي بعد زواجه منها بثلاثة أشهر بالزائدة الدودية، والآخر هو عمر بسين الذي رحل هو الآخر بعد ثلاث سنوات من اقترانه بالسقّاف. ولعلّ هذا الفقد الشخصي هو الذي ولّد في كتابتها فكرًا وجوديًا يتساءلُ عن الميتافيزيقا وعن ماوراءها: عن ماهية الإنسان، وعن كيفية الربط بين الروح الدينية والعلم في أواسط القرن العشرين.

خصّص عامر العقّاد وهو ابن أخ المفكر عبّاس العقّاد في كتابه "لمحات من حياة العقّاد" صفحتين كاملتين عن أبكار ولم يورد اسمها وإنَّما كنّى عنها بالأديبة الجميلة السمراء! وأرخ للقائها الأول مع العقّاد الذي ستصبح فيما بعد تلميذته ومريدته؛ فقد التقاها العقّاد لأول مرة في المكتبة الأنجلو مصرية عندما عرضت كتابها الأول على الناشر. وسرعان ما أصبحت هي وزوجها من أبرز رواد صالونه الذي كان ينعقد كلَّ يوم جمعة. واستعان العقّاد بترجمات أبكار للكتب المؤلَّفة باللغة الفرنسية. والظاهر أنَّ عقليتها الفذة في توفرها على العمق التحليليّ المنطقيّ جعلت العقّاد يلقبها "بالسيد أبكار" كلما أهدى إليها أحد مؤلفاته عند صدورها! وليس هذا بغريبٍ على العقّاد المعروف بمنظوره الخاص عن المرأة!

 والغريب أنَّ أبكارًا كانت تعتزُّ بهذا اللقب وتراسله كلما سافرت بعيدًا عن القاهرة وتخاطبه في رسائلها "بوالدي العزيز"، وقد أهدته كتابها "إسرائيل والأرض الموعودة". ولا نعرف ماسر إغفال عامر العقّاد لاسم أبكار السقّاف رغم إشارته إلى أسماء مريدات أخريات لندوة العّقاد الفكرية مثل القاصة جاذبية صدقي؟! ولا نعرف كذلك سر تجاهل بعض الأدباء والمفكرين المصريين لأبكار السقّاف رغم تواصلها الثقافي العميق معهم مثل العقّاد وصالح جودت ونجيب محفوظ وأنيس منصور ومحفوظ الأنصاري ومحرم كمال باشا عالم الآثار وغيرهم! ونحن لا نتحدثُ عن كاتبة عادية وإنَّما نتحدث عن مفكرة هي أول امرأة عربية طرقت حقل الأديان المقارنة وفلسفات الدين، وهو حقل صعب جدًا وشائك ولا يسلم مرتاده من الضرر. وقد تصدَّت أبكار لهذا الموضوع وكتبته بعمق منهجي رصين بالأدوات التي توافرت لها آنذاك وباطلاع مكثف شهد لها به المقربون منها. ولكن أحسب أن غرابة وجود مفكرة صارمة التفكير مثل أبكار في مجتمع ثقافي ذكوري هو الذي جعلها تستأنس بتسمية العقّاد لها"السيد أبكار"، وترتضي هذه التسمية في وقت سبقتها فيه مي زيادة وباحثة البادية بالصراخ دفاعًا عن حقوق المرأة ولكنها تختلف عنهن فهي لم تدافع عن حقوقها وإنما اقتحمت مجالاً صعًبا كُتِبَت بأقلام ذكورية مثل العقّاد وسواه وأثبتت جدارتها بعيداً عن صراخ النسويات العربيات من القمع الذكوري! وانعكس هذا الاشتغال حتى على مظهرها الخارجي بتلك النظارات السوداء التي كانت تخفي بها عينيها الواسعتين الجميلتين.

يُعد الكاتب المصري مهدي مصطفى من الكتاب القلائل الذين عُنوا بتراث أبكار الفكريّ، وقد تعرَّف إليها بعد وفاتها ومن خلال نتاجها وكتب تصديرًا مهمًا لكتابها الذي أعادت مؤسسة الانتشار العربي نشره ، وفي تصديره بيّن وجهة نظره في التعتيم الكبير الذي لحق بنتاج السقّاف، وأرجعه إلى كونها تنتمي إلى مدرسة غير متورطة بالسياسة إيديولوجيًا، وهي مدرسة البناء من الداخل أو التنوير العميق شرط ابتكار المنهج والتفكير من داخل البنية الثقافية. وهذه المدرسة تتمثل في أطروحات بعض المفكرين مثل عبدالله القصيمي وإسماعيل مظهر ومحمد أحمد خلف الله وأبكار السقّاف. وهي مدرسة تفترق عن مدرستي الحداثة والتقليد آنذاك وسجالاتهما السياسية والثقافية والفكرية المشتعلة.

لاتزالُ مجموعة مهمة من كتب أبكار السقّاف حبيسة الأدراج ولم تُنشر بعد وهي "محمد النبي" و"المسيح" و"النبي موسى" و"السهروردي" و"الليل والقلم" ديوان شعر وسيرتها الذاتية وكتاب عن اللغة و"همسة في أذن إسرائيل" وهو باللغة الإنجليزية. ولذا أناشدُ عائلتها بنشر المتبقي من نتاجها كي لا يضيع لأهميته في توثيق ذاكرة البدايات التنويرية النسوية. كما أناشدُ المتخصصين في الأديان المقارنة بالاطلاع على كتابها والتعليق عليه حتى لو لم نتفق معها في منظورها الذي تنطلق منه. فالاختلاف يعمق المقاربات ويضفي عليها ثراءً منهجيًا لا يفسدُ للود قضية! وهي قراءات ومقاربات تستحقها مفكرة عربية تنويرية قرأت ألف كتاب كما وصفها بذلك كاتب معاصر لها! ولكنها غُيِّبت للأسف بالنسيان والتجاهل!