الأحد 22 مايو 2016 / 18:54

فارس وغياب الأثر المُشرِق

عبر التاريخ السياسي لكل الحضارات القديمة التي غزت مدن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإننا لا نستطيع إنكار أنها قد تركت آثاراً وبناءً وعمائر وصروحاً.. فبعد التحكم والتفرد والسيطرة، ومع ممارسة الطغيان.. وضعوا بصمة هويتهم الخاصة في المكان تعزيزاً لوجودهم وقوتهم وثقافتهم، من معابد دينية وقصور سياسية وجسور وغيرها.. ليظل هذا البناء المحفور بنقوشه الفنية، ذا تأثير أدبي وفني مثمر فيما بعد.

لاحظنا كيف تركت البرتغال حصونها بأحجامها المختلفة على سواحل الخليج العربي، وكيف ترك الأمويون قلاعهم وقصورهم في الأندلس، وكذلك روما في آثارها اللامتناهية في سوريا والإغريق في مصر بصروحها...

لكن عبر هذا التاريخ الطويل، لِمَ لَمْ نجد آثاراً فارسية في مصر أو سوريا أو العراق.. أثناء غزوها واحتلاها خلال تاريخها الاستعماري الطويل، فكل ما وجدنا من مخلفات مؤرخة هي الدمار..

.. وما يلفت النظر هي تلك النقطة الفاصلة، في أن العلاقة بين بلاد ما بين النهرين وفارس قبل أن تحكمها الأسرة الأخمينية كانت علاقة فكرية وأدبية وفنية متحضرة، بل علاقة منسجمة.. ولا أحد يستطيع أن ينكر مدى استفادة الفرس من حضارة بلاد سومر في جنوب العراق وحضارة عيلام الواقعة في جنوب ايران حالياً..

كانت سيطرة الأسرة الأخمينية على الحكم في إيران هي البداية المهلكة، حيث قامت بتدمير بابل، ولم يكن ذلك سوى بطلب من يهودها الذين رأوا في ملكهم الأخميني "قُورُش" القوة والقدرة لفك أسراهم هناك، فتم إقناعه.. أما المُؤرَّخُ في كتب التاريخ عن عظمة هذه السلالة ومجدها، فهو مقتبس من كتابات مؤرخي يهود فارس، وقد اكتشف ذلك المستشرقون مؤخراً وانتبهوا له، فالأخمينيون الذين لم يعرفوا سوى القتل والدم، هم السبب في إعادة ما كُتِبَ في كتاب التوراة الذي يعتقدون بوجوب تطبيقه ليعيدوا الحياة الى أورشليم.

ثم بالعَود لآثارها خارج حدودها يتبادر للذهن سؤال مفاده.. أين هي الأثار الفارسية في العراق؟ سوى "إيوان كسرى".. وكذلك مصر الخالية منها، فحين دخلها الأخمينيون عام 525 ق. م، لم يفعلوا سوى تدمير المنشآت الفرعونية على يد جيش قمبيز.. وكذلك في سوريا التي نجد فيها كل آثار الحضارات التي حكمتها، سوى الآثار الفارسية.. ولم تبقى الخليج العربي بِبعيدة عنهم، فان الأخمينين كان لهم دور تخريبي في حرق وتدمير آثار مليحة الواقعة في إمارة الشارقة.. أما في اليمن وبالتحديد في عدن التي حضنت كل الأديان، فمعبد الصمت للطائفة الزرادشتية الذي ما زال قائماً فوق جبل شمسان، فإنه مَعلمٌ ديني لا سياسي.

هذه القوة الأخمينية التي احتلت غرب الأناضول وإيران وفلسطين ومصر وبابل إلى وادي السند وليبيا حتى مقدونيا وسيطرت على طرق التجارة كلها.. كانت سلالة مستبدة، لكن ما نراه الآن أن إيران استمرت في تلك السياسة التخريبية حتى بعد انتهاء هذه السلالة، لتبقى كقوة توسعية فوقية وعنيدة شرقاً وغرباً، وتترك دروساً في دهائها السياسي لا المعرفي والبنائي.

هذا شيء من تاريخها السياسي، أما شعبه العريق فإنه يعشق الفنون والآداب والفكر.. وهنا فأنا لا أكتب سوى بعض من تاريخها السياسي الذي ما زال يدير شؤونه الخارجية بذات الدهاء لتلك العائلة الأخمينية الموغلة في التدمير لا في البناء.