الأربعاء 24 أغسطس 2016 / 18:30

"ولو كنتَ فضَّاً غليظ القلبِ"

التشدّد الديني لا يصنع مسلماً ملتزماً بل من الممكن أن يكون دافعاً لصناعة مسلم غير ملتزم أو سيء بالمعنى الأصح.

أقف كثيراً وأنا أتأمل بعض الأحكام أو الفتاوى التي يطلقها رجال الدين المتشددين والتي عادة ما تكون مدعاة لسخرية الناس منها والتهكُّم عليها وهذا بحدّ ذاته أمر يسيء للإسلام، وكأنهم بتشددهم وعنجهيتهم آثروا أن يسلكوا هذا المسلك لتشويه المعنى السامي التسامحي للدين الحنيف.

(ولو كنتَ فضَّاً غليظ القلبِ لأنفضُّوا من حولك) هذه الآية القرآنية الصريحة ما أن تحاجج بها أحدهم حتى ينفجر بركام هائل من التأويل واللاّهوت والتحنيط العقلي والذي لا يُجدي شيء معه غير أن تتركه أمام رُكامه هذا وتمضي.

كعْبُ بن زهير شاعر أدرك الجاهلية والإسلام، كان أبوه زهير بن أبي سلمى من القامات العالية في الشعر الجاهلي ومن شعراء المعلقات.. يُحكى أن كعباً هذا اغتاظ من أخيه (بجُير) حين أسلم فهجاه وهجا الإسلام وهجا الرسول فأهدرَ النبي دمه.

بعد فتح مكة ضاقت الأرض بالشاعر فلجأ الى النبي وطلب أن يلقي قصيدة بين يديه فأذن له فقرأ:

بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ متيمٌ إثرها لم يُفدَ مكبولُ
وما سعادٌ غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيضُ الطرفِ مكحولُ
وما تمسَّكُ بالوصل الذي زعمت إلا كما تمسكُ الماءَ الغرابيلُ
كانت مواعيدُ عرقوبٍ لها مثلاً وما مواعيدُها إلا الأباطيلُ

إلى أن يقول:
أنبئتُ أن رسول الله أوعدني والوعدُ عند رسول اللهِ مأمولُ
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيلُ

كان عدد أبيات القصيدة (59) بيتا باختلاف أو اتفاق المصادر منها (37) بيتا تغزَّل بها الشاعرُ بسعاد و(22) بيتاً امتدح بها الرسول وعليه فإن عدد الأبيات التي تغزل بها بحبيبته أكثر من عدد الأبيات التي امتدح بها النبي ومع هذا كان النبي ينصت له ويستحسن ما يلقيه حتى إذا انتهى خلع بردته وألبسها إياه وعفا عنه! فأي نبي عظيم هذا.

ماذا لو قرأ اليوم شاعر ما قصيدة غزل أمام رجل دين متشدد ؟ بالتأكيد سيخرج مضرّجا بدمه هذا إذا خرج أساساً! والطامة الكبرى فإن الكثير منهم يعتبر الشعر من المحرمات فلا يقرأه ولا يستمع له وكأنما الله سبحانه قد خوَّلهم بالتحريم والتحليل على أرضه .. فأين هؤلاء من النبي ص الذي يحمل هذه الروح المضاءة بالمحبة والتسامح والتي تعكس وجه الإسلام الحقيقي الذي تحايل عليه من تحايل فنفثوا سُمَّهم بتأويلاتٍ وتفاسير ما أنزل الله بها من سلطان لا تخدم إلا مصالحهم وانتهازيتهم وتؤسس لما يسعف ويديم ثيوقراطياتهم المقيتة.