الأربعاء 23 نوفمبر 2016 / 18:30

القلة القارئة لستاندال السعيد

ما الذي أراد قوله ستاندال حينما بدا متجهماً وهو يقول: القلة القارئة هي القلة السعيدة؟ سؤال طالما أدهشتني إجاباته رغم أنني أناورُ معرفياً بها من أجل أن أستغرق طويلاً في فهمها .. ستاندال الذي قرأتُ له كثيراً صدمني لكنه جعلني أتوقف عند مفهوم المعرفة والتوسع بها ..
القراءة رغبة مفعمة بكل ما هو جمالي وحيوي .. نَهَمٌ كارثي لازمني منذ الصبا .. لقد كانت تشكّل يومياتي النافرة وتحيطها بغبش مليء بالدهشة. كان يُعاب عليّ ذلك!

النقود التي تحبس أنفاسها بين أصابعي وأنا مبتهج بفكرة شراء قميص جديد في ليلة أعدّ بها ثوانيها كي ألتقي بمن أحبها سرعان ما تنهمر مثل قطع الثلج الهشة في كفِّ بائع الكتب المبتسم ثم ما ألبث أن أعود بخُفّي فرحة مثلومة وأنا أتأبط كتاب مسخ الكائنات لأفيد .. ولكن ماذا عن الموعد والحبيبة ؟ لا بأس أن أرتدي القميص الغارق في القِدم والذي بدا شاحبا كوجهي!

نَهَمُ القراءة يُصيب صديقنا ستاندال بالغثيان .. ولكنه يبدو محقاً فبهجتي وسعادتي بقراءة مسخ الكائنات يوازي تماماً البهجة والسعادة التي كنت متشحاً بهما وأنا أحبس أنفاس نقودي بين أصابعي لشراء قميص جديد لموعد كوني ..

أفيد يستلقي على أحد رفوف مكتبتي باسترخاء .. القلة القارئة سعادتها لا توصف خاصة إذا امتلأ وجهها حياء جرّاء نظرات الحبيبة إلى قميص آيل للانقراض.

القراءة ستؤدي في النهاية إلى اكتشاف الذات هذا ما يصرُّ عليه اوكتوفيوباث .. لا يمكن أن تكون القراءة ترفا نصفُّ ملامحه في مكتباتنا الأنيقة من أجل إيهام الآخر بثقافاتنا متعددة الحَوَاس .. هل المثقف قارئ نَهِم هل هو مطلع موسوعي؟ ربما ما سأقوله لا يعجب ستاندال لكنه سيشعِر باث بالانتصار! إذا أردت أن تكون مثقفاً عليك أن تكون موسوعياً .. خطأ فادح.
قد لا يُجيد ما ارميه التحدث عن الرواية ومن المحتمل جداً أن لا يُحسِن كازانتزاكي التحدث عن الشعر لكنهما من أهم مثقفي العصر الحديث في النهاية وكلاهما من القلة السعيدة التي يعنيها ستاندال وباث على حد سواء.

ليس من الضرورة أن تسقي عقلك بالقراءة ليتضخم ولكن من الضرورة أن تسقي خيالك بالقراءة لتُبدع .. كل المبدعين اشتغلوا على صيانة الخيال وتشذيبه لأنه مادتهم الخام التي تغمرهم بالسعادة.

الخيال وتنشطته مهمة رائعة وقاسية معاً ولكنها تمنح المبدع مدياتٍ لا حصر لها من خامات الإبداع الحقيقي .. كلما كان الخيال مزهراً كلما استطاع المبدع أن يُضفي على ما يكتبه موجاً هادراً من الابتكار المعرفي.

القلة السعيدة هي القلة الممتلئة بخيال مضيء دائماً.. الخيال أرض أخصب من العقل بكثير لكن العقل والخيال في خط شروع واحد غير قابل للتشتت أو التقزم أو التلاشي.

المبدع كائن بيولوجي يدّخر لقطاته باستثنائيةٍ فريدة ويشتغل عليها بمهارة عالية لكي ينتج نصا يليق به.. الجزيئيات اليومية التي قد نهملها يمكن لها أن تصنع نصاً مكثفاً ومتماسكاً مثل جذع شجرة اليوكالبتوس .. من يستطيع أن يصنع من جزيئيات يومه نصاً كهذا؟ إنهم القلة القارئة السعيدة التي يؤكد حيوتها الإبداعية صديقنا ستاندال بامتياز.