السبت 7 يناير 2017 / 19:26

كيف صدر حكم بجلد الفتاة؟

عبّر بعض الأشخاص في "تويتر" عن دهشتهم من خبر عن حكم من محكمة إماراتية بحبس فتاة وشاب إماراتيين ستة أشهر عن تهمة الزنا، وجلد الفتاة مائة جلدة، بعد أن تعارفا كما قال الخبر من خلال مواقع التواصل، ثم حدث بينهما ما حدث، وحبلت الفتاة، وبسؤالها في المستشفى عن بيانات زوجها، قالت إنها غير متزوجة، فتم القبض عليها ثم على الشاب، ووجّهت لهما تهمة الزنا، وصدر ذلك الحكم بحقهما.

ولم تكن الدهشة من تجريم القوانين للعلاقات خارج إطار الزواج، وإنما من صدور حكم بالجلد، إذ ثمة اعتقاد بأن هذه العقوبة غير موجودة في القوانين الإماراتية، وهذا الاعتقاد له ما يبرره على أرض الواقع، فلا أحد يُجلد هنا، لكن تلك العقوبة "نظرياً" موجودة.

القصة تبدأ من المادة رقم (1) في قانون العقوبات الاتحادي الذي يسري على كافة أنحاء الدولة، والتي تنص على الآتي: "تسري في شأن جرائم الحدود والقصاص والديّة أحكام الشريعة الإسلامية، وتحدد الجرائم والعقوبات التعزيرية وفق أحكام هذا القانون والقوانين العقابية الأخرى".

الفقرة الأولى من هذه المادة تعني أن أي جريمة من جرائم الحدود (الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردّة، والبغي)، وأي جريمة من جرائم القصاص والديّة (القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ، والجناية على ما دون النفس عمداً، والجناية على ما دون النفس خطأ)، تسري عليها أحكام الشريعة التي وضعت لهذه الجرائم عقوبات محددة يعرفها الجميع.

أما الفقرة الثانية من المادة فتعني أن قانون العقوبات يحدد بقية أنواع الجرائم والعقوبات، خارج دائرة جرائم الحدود والقصاص والديّة، وهي الجرائم التي تسمى جرائم التعزير (التأديب)، وقد تركت الشريعة تحديدها وتقرير العقاب عليها بيد ولي الأمر (سلطات الدولة بحسب التعبير الحديث)، وفقاً للظروف والاعتبارات والمصالح العليا.

بمعنى أن من يزني أو يسرق يعاقب وفق أحكام الشريعة، أما من يتلف مالاً مملوكاً للغير، أو يزوّر أوراقاً رسمية، أو يتقدم ببلاغ كاذب، أو ينتهك حرمة ملك الغير، أو يتعاطى المخدرات، أو ينتحل صفة الغير، أو يرشي موظفاً، أو يزعج السلطات، أو يغش في المعاملات التجارية، أو يخون الأمانة، وكل هذه الأفعال متروكة بحسب الشريعة لولي الأمر يقدر العقوبة المناسبة لها، ومن ثم يعاقب مرتكب أي من تلك الأفعال وفق قانون العقوبات الذي وضعته السُلطة المختصة.

وإذا كان الأمر كذلك، فقد يسأل السائل: لم لا نسمع عن أحكام قطع اليد، رغم أن هناك جرائم سرقة؟! ولا نسمع عن أحكام رجم، رغم أن هناك متزوجين يتورطون بالزنا؟! ولا نسمع عن أحكام جلد، رغم أن هناك جرائم زنا وشرب خمر وقذف؟!

والجواب على هذا التساؤل (كان هذا التساؤل يمر ببالي قبل أن أتخصص في القانون وأعمل محامياً)، أن جرائم الحدود والقصاص والديّة لا تتحقق إلا بتوافر شروط في الواقعة وضعها فقهاء الشريعة، فإذا لم تتحقق في واقعة سرقة مثلاً تلك الشروط، أو ثارت حول الواقعة شبهات معينة، عوملت واقعة السرقة باعتبارها من جرائم التعزير المعاقب عليها وفق قانون العقوبات، وحكمت المحكمة على السارق بالسجن أو بالحبس، وليس قطع اليد.

ولو زنى رجل بامرأة، فإن حدّ الرجم لا يطبق إن لم تتوافر في الواقعة أركانها الشرعية، أو إذا وُجدت شبهات حولها، ومع هذا، فالمحكمة لا تخلي سبيلهما، وإنما تعاقبهما باعتبار فعلتهما جريمة تعزيرية تستوجب التأديب الذي قرره القانون لجريمة هتك العرض بالرضا.

لذلك نجد مثلاً أن الفصل المختص بالجرائم الواقعة عى السمعة مادة تنص على الآتي: "مع عدم الإخلال بأركان وشرائط جريمة القذف المعاقب عليها حدّاً، يعاقب من امتنع توقيع حدّ القذف في شأنه بحسب وصف الجريمة وفقاً لأحكام المواد التالية..". وهكذا في الفصل المختص بجرائم السرقة، تنص المادة على أنه: "إذا امتنع توقيع حد السرقة عوقب الجاني تعزيراً بحسب وصف الجريمة وفقاً لأحكام هذا القانون".

ولأنه يصعب تصوّر أن الشروط الشرعية لم تتوفر في أي جريمة زنا مثلاً، وكانت ثمة شبهات دائماً تدرء الحد، فإنه ينبغي التوضيح بأن تلك الشروط كثيرة ومتضاربة، فهناك اختلاف في تعريف الوطء، وفي بقاء البكارة من عدمها، وفي شروط الزاني والزانية، وفي القصد الجنائي والجهل بالتحريم، وفي الستر على الجريمة، والإخبار عن الزنا، وإثباته، وطرق انقضاء دعواه، وفي تجريح الشهود، واقتناع القاضي بالشهادة من عدمها، وجزاء جريمة الزنا، وطرق تنفيذ العقوبة، وغيرها الكثير.

ويبدو أن الفتاة التي صدر ضدها حكم بالجلد، توفرت في حقها تلك الشروط، ربما بسبب إقرارها على نفسها. ويبدو أيضاً أن الشاب لم يقرّ على نفسه، ومن ثم صدر ضده حكم موافق لقانون العقوبات. ولا أعرف حقيقة إن كان ذلك الحكم سينفذ فعلاً أم أن محكمة الاستئناف سيكون لها رأي آخر.

وتبقت مسألتان من المهم توضيحهما في هذا الصدد، فثمة تصوّر بأن العقوبات على الجرائم تختلف من إمارة إلى أخرى، وهذا التصوّر غير دقيق، والقضية أن هناك أربعة محاكم عليا في الدولة تراقب صحة تطبيق القانون وتوحيد فهمه وتفسيره، وهي المحكمة الاتحادية العليا، ومحكمة نقض أبوظبي، ومحكمة تمييز دبي، ومحكمة تمييز رأس الخيمة.

وجود أكثر من محكمة عليا يؤدي إلى وجود تفسير، ومن ثم تطبيق مختلف لقانون واحد ينجم عنه تفاوت في الأحكام، وأكثر ذلك ينشأ من تفسير المادة رقم (1) في قانون العقوبات، إذ تذهب المحاكم العليا، باستثناء محكمة تمييز دبي، إلى أن المادة المذكورة تلزم القاضي الأخذ بآراء فقهاء الشريعة في جرائم الحدود والقصاص والديّة، فإذا لم تتوفر في الواقعة الشروط الشرعية، فينبغي تكييفها كجريمة تعزيرية، في حين أن القضاء في دبي لا يسير في ذلك المسار، بل يعد جميع الجرائم الواقعة في الإمارة جرائم تعزيرية في كل الأحوال ومنذ اللحظة الأولى.

بمعنى أن من يسرق في غير إمارة دبي، تبحث النيابة العامة، ومن بعدها المحكمة، حول مدى توافر الشروط الشرعية لاعتبار تلك الواقعة جريمة سرقة شرعية، فإذا لم تتوافر فيها تلك الشروط، أو كانت ثمة شبهة، تعاملت النيابة العامة، ومن بعدها المحكمة، مع الواقعة كأنها جريمة سرقة قانونية معاقب عليها وفق قانون العقوبات.

أما من يسرق في دبي، فإن النيابة العامة، ومن بعدها المحكمة، تعامل واقعة السرقة باعتبارها سرقة معاقب عليها وفق قانون العقوبات، ولا أحد يبحث في شروط الفقهاء، أو يبحث عن شبهات درء حدّ السرقة. وهكذا مع بقية جرائم الحدود والقصاص والديّة، فمن يلقى القبض عليه مع فتاة أقام معها علاقة جنسية في دبي، لا أحد يسأله عما إذا كان محصناً أو غير محصن، ولا أحد يسأل الفتاة عن ذلك، فالواقعة تعد جريمة هتك عرض بالرضا، بينما في بقية إمارات الدولة يُسأل وتُسأل، لأن الواقعة تعد زنا في الأصل، فإذا تبين عدم توافر الشروط الشرعية لاعتبار فعلهما زنا، أو كان ثمة شبهة تدرأ حدّ الزنا عنهما، عوملت الواقعة باعتبارها جريمة هتك عرض بالرضا.

والمسألة الثانية التي من المهم توضيحها في هذا السياق، أن حدّ الردّة مستثنى من الحدود المعاقب عليها وفق أحكام الشريعة في الإمارات. صحيح أنه ليس هناك أي نص صريح بذلك، لكنه مستثنى ضمناً، ذلك أن بقية الحدود الشرعية تعد جرائم قانونية في الوقت نفسه، بمعنى أن الفعل المكوّن للجريمة واحد، فالسارق سارقٌ في الشريعة وفي القانون، والقاتل قاتلٌ في الشريعة وفي القانون، والمرتد مرتدٌ في الشريعة لكن ليس في القانون أي تجريم بعنوان الردّة أو الإلحاد، ولا عقوبة ولا جريمة إلا بنص كما هو معروف.