الأحد 18 أغسطس 2013 / 00:03

أسئلة الماء

في بيشتني, إحدى المدن السلوفاكية المعروفة بمصحاتها العلاجية, يلفت إنتباهك إذا ما زرتها بالإضافة لطبيعتها البكر الساحرة, الطوابير الطويلة أمام ينابيع المياه والصنابير الموزعة والمزخرفة بشكل فني لتشكل تحفة تاريخية يحفظها البلد ويفتخر بها، وليس اللافت انتظام المنتظرين وصبرهم ولكن تنوع أحجام قناني المياه الفارغة التي يحملونها في أيديهم لملئها بقليل من المياه "المباركة" وذات التأثير العلاجي الساحر، كما شرحت لي صديقتي الخليجية الأب وسلوفاكية الأم.

وبرغم أني ملولة ولا أجيد الانتظار، إلا أني، وفي أحد الأيام، وجدت نفسي أقف في طابور المنتظرين وكنت محظوظة بأنه كان قصيراً ذلك اليوم, وبرغم الزخرفة الفنية لصنبور المياه, ومثلها يلفت انتباهي بالعادة إلا اني لم أستطع تحمل رائحة البيض الفاسد والذي كان مصدره المياه نفسها, المياه التي يدّعون أن لها قدرات شفائية عجيبة.

التفت خلفي باستنكار شديد من أعداد البشر الذين كان عددهم يزداد في الاصطفاف, كيف يمكنهم شرب مثل هذا الماء الساخن جداً وذا الرائحة المنفرة ولونه أيضاً معكر! و لم تفلح محاولات صديقتي النصف سلوفاكية بإقناعي بالشرب من الماء، وخرجت من الطابور وعيون المنتظرين خلفي تراقب باستغراب نفوري الواضح من المياه.

لفت انتباهي، بعد ذلك, عدد البرك الصغيرة المرتبة والتي تزينها أزهار اللوتس الرائعة, وخلفها كان هناك مجرى مائي مرتفع قليلاً وصغير, توجهت إليه وظننت أنه امتداد للمياه الساخنة التي كانت اسطوانة صديقتي لازالت تدور في مدحها وفي مدح فوائدها وكيف أني ضيعت على نفسي فرصة قد لا تتكرر سريعاً في الطوابير الطويلة, مددت يدي في مجرى المياه في محاولة لكسر الاسطوانة وبأني حتماً أستمع لنصائح صديقتي وسأجرب من أجلها فوائد الماء الساخن العكر, لكني فوجئت ببرودة المياه, قربت أنفي ولم تكن هناك أية رائحة كريهة, بل إن صفاء المياه وبرودتها أغرتني بأن أضع منه قليلاً في كفي لأشربه, قبل أن تصرخ صديقتي بعد أن انتبهت لي بأن لا أفعل!

الغريب أن هذه المياه الباردة والتي تبدو زلالاً هي المياه الآسنة التي تكثر فيها الجراثيم وتهوم فيها الضفادع وغير صالحة للاستهلاك الآدمي!

كانت هذه التجربة الصغيرة المتناقضة و التي قد لا يتوقف عندها أحد في سنة 1995 كفيلة بجعلي أتأمل خياراتي دائماً, أن أكون واقعية وعقلانية قدر استطاعتي, أن أطلب مصدر المعلومات والحقائق قبل الانجراف وراء المعلومة الأولى, كيف وأين ومتى ولماذا؟ كان يمكنني الوقوف والانجراف وراء الطابور بدون تساؤلات وأفعل مثل الآخرين, ولكني اخترت أن أفهم سبب هذه الرائحة الكريهة, وعرفت أنه الكبريت ومعادن أخرى واخترت رغم ذلك أن لا أشربه وأن أكتفي بالمياه المعبأه والتي تروي عطشي بقدر ما يحتاجه جسدي بدون إضافات معدنية كريهة.

كان ذلك اختياري الخاص في النهاية, أسئلة منطقية صغيرة قد تغير حياتنا, وتفكيرنا, أسئلة من حقنا البحث فيها وعن أجوبتها, ومن حقنا أيضاً مناقشتها ومحاولة فهمها, وربما نكون نحن أحد مفاتيح حلها أو سبب لخلق شيء جديد يفيدنا ويفيد الآخرين!

الحياة أسئلة وتفكر أيضاً وليست أجوبة جاهزة فقط!

@MariamNsr