عبدالقادر عبدللي. (أرشيف)
عبدالقادر عبدللي. (أرشيف)
الإثنين 6 مارس 2017 / 19:59

سورية عبدللي في مستقره الأخير في أضنة التركية

فهمه العميق لخلفيات الأحزاب التركية يبقى أكثر ما أدين به للراحل الصديق، عندما كرر في جلسات، ومقالات، فكرة أن تركيا تدين بنهضتها، وديموقراطيتها، إلى أحزاب يمين الوسط، وليس لأحزاب أتاتوركية

في ست سنوات، ازداد عدد السوريين بضع مئات الآلاف، على الرغم من مساهمة النظام الأسدي في قتل ما لا يقل عن نصف مليون سوري، غدراً، وتعاون الفصائل المسلحة المنفلتة عن الثورة في هذا القتل اليومي المتنقل الذي هجَّر وشرد الملايين، بين نازح ولاجئ.

المؤكد أن القتلى والمهجرين ليسوا مجرد أرقام، لكن الإنتاج الكبير للقتل يجعلهم كذلك، مع الأسف، وبالكاد يتذكرهم ذووهم بعد أيام من رحيلهم، حين يتحسس الأحياء رؤوسهم وينهمكون في سيل الأخبار العامة للمقتلة السورية، لتقودهم غريزة البقاء لتفهم معنى "الحي أبقى من الميت".

في وسط هذه المقتلة، تحظى بعض الأسماء بفرصة الاهتمام العام، ومنهم الصديق عبدالقادر عبدللي(1957- 2 مارس/ آذار 2017)، الذي ودعنا بعد اكتشاف إصابته بالسرطان قبل شهور قليلة.
شخصياً، عرفته متأخراً، ومع ذلك كنا قريبين من بعضنا، وحصلت بيننا تلك الكيمياء الإنسانية التي لا يمكن أن يشعر بها سوى الشخصين المعنيين بالحالة. فتلك الأشهر القليلة، تخللها البعد الجغرافي، والاتصال عبر أصدقاء في البدايات، ثم التعرف إلى عائلته الصغيرة. وهذه لا تُقارن بعشرات السنين من الصداقة، أو الاعتياد، أو بـ 60 سنة من العلاقة العائلية في محيط آل عبدللي المنحدرين من مدينة إدلب، أو بصداقات أيام الطفولة، والدراسة، والعمل، والغربات المتعددة، أيام دراسته في تركيا للرسوم المتحركة، والمسرح، والفنون التشكيلية.

من يعرف الترجمة، أو قرأ في شؤونها، يعرف أن المترجم أكثر بكثير من مجرد قاموس، وقوائم من الكلمات، في اللغتين التي يتعامل معهما. وفي ما يخص براعة عبدللي في نقله أكثر من ثمانين كتاباً من التركية إلى العربية، وبالعكس، عرف الراحل الثقافة التركية المختلفة كثيراً عن العربية، على عكس الفكرة السائدة عن تلازم الثقافتين، من خلال التقاطع التاريخي، والدين، واللغة، حيث تستعير التركية أكثر من 40% من مفرداتها من العربية. لكن المفردات العربية ذابت في التركية، وأصبحت ذات مدلولات خاصة منفصلة كثيراً، أو قليلاً، عن أصلها العربي. وهذه إحدى الأشياء التي أدركها عبدللي بعدما أتقن روح اللغة التركية، وترجم إدراكه هذا للعربية كما ينبغي للمترجم، ناقلاً روح عزيز نيسين، وأورهان باموق، دون شبهة "بتصرف" التي يعتمدها المترجم المتعجل فهم المفردة، أو العبارة، بنسبتها إلى الأصل العربي.
هذا الفهم "العبدللي" المتقدم، في خصوص عمله كمترجم، أكثر صعوبة من عبارة "تعريب" التي يتعامل معها المترجم بين لغتين متباعدتين لا توجد شبهة تلاقح بينهما، وهو ما جعل أورهان باموق يعتمد عبدالقادر عبدللي مترجماً حصرياً لرواياته إلى العربية، بغض النظر عن دار النشر التي تريد ذلك.

وهذا بالضبط ما جعل صحفاً عربية، ومواقع إلكترونية، ترحب، وتطلب، مقالات عبدللي السياسية المتخصصة في الشأن التركي، لفهمه العميق، والتاريخي، لتركيبة المجتمع التركي، وللخلفية التاريخية للأحزاب التركية، وللتحولات المستمرة في تلك السياسية بعد موجة الانقلابات داخل دولة أتاتورك في ما بعد عام 1960، وصولاً إلى تسيد حزب أردوغان للسياسة التركية منذ بدايات القرن الحالي.

شخصياً، أحاول استعادة شيئاً مما قاله عبدالقادر عبدللي في كل مرة أفكر فيها في الكتابة عن الشأن التركي، أو أتجنب تكرار خطأ نبهني إليه ناصحاً أكثر من مرة. لكن فهمه العميق لخلفيات الأحزاب التركية يبقى أكثر ما أدين به للراحل الصديق، عندما كرر في جلسات، ومقالات، فكرة أن تركيا تدين بنهضتها، وديموقراطيتها، إلى أحزاب يمين الوسط، وليس لأحزاب أتاتوركية (حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية). وحسب الراحل، ينتمي تورغوت أوزال (حزب الوطن الأم)، وعدنان مندريس (حزب الديمقراطية)، وأردوغان (حزب العدالة والتنمية)، إلى يمين الوسط، على عكس الشائع أن مندريس وأردوغان إسلاميان.

وللعلم، تورغوت أوزالهو أول من طلب التحول إلى النظام الرئاسي في ثمانينيات القرن الماضي. على كل حال، تبدو الحالة اليمينية الناهضة موجة عالمية، في الولايات المتحدة، وفي أوروبا، وفي العالم الثالث المستقر اصطلاحياً حتى بعد زوال مبررات نحت المصطلح في أصله الأول.

اختُطف عبدللي في عز عطائه، وفي عز فوضى الحياة السورية، حيث انحدرت حياة السوريين، عموماً، إلى قيمة الصفر، هكذا، دون محاسبة قريبة للقاتل، ودون ما يليق بالراحل من تكريم وتذكر في جغرافية السوريين المشتتة بين النفي والمنفى القسري والنزوح واللجوء، في حالاتيميل بعضها إلى أبد الغربة، جزاء ثورتهم على أبد الديكتاتور.

لست صديقاً شخصياً للراحل، بالمعنى الحرفي للكلمة، ولذلك تجنبت التركيز على هذه الحالة، مفضلاً الكتابة عن عبدللي السوري، المبدع، والمترجم، الذي دُفن بعيداً عن مسقط رأسه، ومشى خلف نعشه عائلته،وستة سوريين، وتركيان، فقط.

في النهاية، هذا حال السوريين، وحال شريكه في الأرض أبي العلاء المعري، حين ترجم الحالة الوجودية العالمية والسورية السالفة الراهنة: "وشبيهٌ صوت النعي إذا قيس بصوت البشير في كل ناد".
وبشرى عبدللي هي في زوجة محبة، وفي شابين وفتاتين وصلوا المرحلة الجامعية باقتدار، وفي كثير من المحبين والمقدرين لمسيرته العامة والخاصة.