رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الأحد 12 نوفمبر 2017 / 19:55

علماء رفضوا الطب النبوي

السؤال الذي يتبادر إلى ذهن كل باحث في موضوع الطب النبوي هو هل كان علماء المسلمين مجمعين على قدسية الطب النبوي بالصورة التي يتخيلها ابن القيم وأتباعه في هذا الزمن؟

صدم ابن خلدون المجتمع الذي يعيش فيه والتراث الذي سيورثه لمن بعده برفضه لفكرة إلهية الطب النبوي

صدم ابن خلدون المجتمع الذي يعيش فيه والتراث الذي سيورثه لمن بعده برفضه لفكرة إلهية الطب النبوي، فيقول في مقدمته الشهيرة (وكان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون كالحارث بن كلدة وغيره، والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شيء وإنما هو أمر كان عادياً للعرب. ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل.

فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له أثر عظيم في النفع وليس ذلك من الطب المزاجي وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه).

فكما هو واضح، لا يرى ابن خلدون صلة للطب بالوحي، بل هو مجموعة من الموروثات الجِبلية التي انبثقت من البيئة العربية التي كان يعيش فيها رسول الله، فهو لم يُبعث لكي يعلم الناس الطب حتى يكون هناك علم قائم بذاته يسمى لاحقاً بالطب النبوي، يعلق الدكتور علي الوردي في كتابه "منطق ابن خلدون" على هذا النص فيقول إن ابن خلدون هنا يحاول إبعاد مسائل الطب عن الدين والشريعة كما فعل صديقه لسان الدين ابن الخطيب الذي قال إن "الشريعة لا تتعرض لمسائل الطب وحوادث الطبيعة التي يجب على البشر أن يدرسوها بأنفسهم ويستخدموا حواسهم وعقولهم في سبيل معرفتها".

ويقول الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه "تاريخ المذاهب الإسلامية" إن حديث "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (يتعلق بالصناعات وفنون الزراعة، وتثمير الأشجار، فهل يتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن يكون حجة وذا خبرة في فنون الزراعة والتجارة، وصناعة الزجاج والجلود، ونسج الأقطان والحرير، وغير ذلك مما يتعلق بالمهن المختلفة، إن كانوا يتصورون ذلك، فقد خلطوا خلطا كبيرا، ولن يميزوا بين رسول جاء بشرع من السماء، وصانع ذي خبرة فنية، وتاجر عالم بالأسواق. إن الحديث وارد في مثل موضوعه، وهو تأبير النخل وغيره من الصناعات والزراعات ونحوها، فما كان الرسول مبعوثا لمثل هذا، والتشريع فوق هذا، وهو الذي جاء به النبي).

فالطب الذي يتكون من علم فسيولوجية الأعضاء والتشريح والأدوية والكائنات المجهرية وعلم الأمراض والنساء الولادة والأطفال والنفسي والجراحة والقلب والكلى والكبد والأورام والدماغ، وعلوم الفضاء والكون والزراعة والهندسة والجيولوجيا والجغرافيا والطاقة والفيزياء والكيمياء والرياضيات، هل هذه العلوم من "دنيانا" أم هي من "أخرانا"؟ فكثير من الأمراض الشائعة في ذلك الوقت كان لها علاجات شائعة تتناسب مع الأدوية المتاحة في ذلك الوقت، فلا تتوقع في القرن السابع ميلادي أن يتم علاج مرض ذات الجنب (pleurisy) - والذي هو عبارة عن التهاب الغشاء المزدوج المحيط بالرئتين وله أكثر من عشرة أسباب عضوية - بالمضادات الحيوية ومسكنات الألم، بل سيكون من الطبيعي استخدام الوسائل المتاحة في ذلك الوقت والتي كانت عبارة عن عود هندي وزيت.

ينقل الزركشي عن الذهبي أنه يرى الطب النبوي خاصاً بطباع وأراض النبي ص إلا إذا دل دليل على خلاف ذلك، وهذا يدل على كون كتاب (الطب النبوي) ليس من تأليف الذهبي، ومع أننا لا نتفق مع الذهبي في مسألة تعميم العلاج على كل أحد وفي كل زمن حتى لو ورد دليل التعميم، إلا أنه تقدم خطوة نحو الاتجاه الصحيح بمعارضته كثيراً من تخيلات أنصار الطب النبوي حين قال إنه من باب المباحات التي لا تلزم كإلزام الأوامر الشرعية، بل هي خاصة بطباع العرب في مكة والمدينة ولا تتعداهم إلى من سواهم إلا بدليل عام واضح.

أما السرخسي إمام الحنفية فيقول في أحاديث التداوي بأبوال الإبل (ثم نقول خصهم رسول الله بذلك -أي من رخص لهم في شرب بول الإبل- لأنه عرف من طريق الوحي أن شفاءهم فيه ولا يوجد مثله في زماننا) فالسرخسي يجعل "الطب النبوي" رخصة لناس مخصوصين في وقت مخصوص ولا يصح تعميمه على الناس أجمعين إلى أبد الآبدين.

أما من المدرسة السلفية المعاصرة، فوجدنا الشيخ محمد الأشقر - الذي يعد تلميذاً للمفتي السابق عبدالعزيز بن باز - إن أحاديث العجوة لعلاج السم والكمأة لعلاج العين والحبة السوداء لعلاج كل داء إلا السام ليست حجة في الأمور الطبية، لكن ينبغي أن تثير احتمالاً بالصحة، كسائر الأقوال الطبية المأثورة عن أهل التجارب والمعرفة من غير أهل الاختصاص، بل هي أولى منها، للشبهة في أنها قد تكون مبنية على الوحي، ولو كانت شبهة ضعيفة، ولذلك رأى أن تخضع مثل هذه الأحاديث للتحليل وللتجارب على الأسس المتعارفة عند أهل الاختصاص، فإن وجدت صالحة أدخلت حيز العمل، ويكون التحليل والتجريب هو الحجة في صلاحيتها، فلو شرب النبي ص دواء معيناً لعلاج مرض معين، فهل يستحب لنا شرب ذلك الدواء لذلك المرض مثلاً، أو يجب، بل هل يباح بناء على ذلك أم لا؟ فقد رجح الأشقر قول من قال من العلماء: إن أقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله في ذلك الباب ليست حجة، ولا يلزم الأخذ بها، بل هي أقوال وأفعال مبنية في الأصل على التجارب الشخصية للنبي صلى الله عليه وسلم من حيث هو بشر، وما قد سمع به من أهل التجربة والمعرفة، واستدل الأشقر بكلام للقاضي عياض في أن الأمور الدنيوية (لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه صلى الله عليه وسلم فيها ما ذكرناه -أي الخطأ- إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة، وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وشغل نفسه بها).

وهذا يقودنا إلى السؤال الجوهري - الذي سنناقشه من خلال المرويات في المقال القادم - وهو هل كان الرسول فعلاً طبيباً؟