مدينة القدس.(أرشيف)
مدينة القدس.(أرشيف)
الأحد 10 ديسمبر 2017 / 18:26

القدس، وما العمل؟

ينبغي أن يقترن رفض القرار، ومطالبة الأمريكيين بالعودة عنه، بالإصرار على مبدأ الحل السلمي التفاوضي، القائم على حل الدولتين، وعلى ضرورة الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، بعد زوال الاحتلال

لم يسبق لحلفاء الولايات المتحدة التقليديين، في الغرب، أن اعترضوا على سياستها الخارجية، كما حدث قبل أيام في اجتماع مجلس الأمن بشأن القدس. وعلى الرغم من حقيقة أن ردود فعلهم تفاوتت من حيث القوّة، ولغة التعبير، إلا أن القاسم المشترك بينهم كان التحذير من مخاطر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، قبل التوّصل إلى صيغة للحل النهائي، وفي سياق صيغة كهذه. وهذا ما عززته، أيضاً، دول الاتحاد الأوروبي في الموقف من الخطوة الأمريكية الجديدة.

ولسابقة كهذه أهمية خاصة إذا ما نُظر إليها على خلفية، وبعد، انسحاب الأمريكيين من اتفاقية المناخ، التي أثارت استياء الأوروبيين، وفي سياق إعادة النظر، من جانب الأمريكيين، في اتفاقيات تخص التجارة الدولية، والتسليح، واستراتيجية حلف الناتو، وقضايا الدفاع عن أوروبا بشكل خاص.
ولعل في كل ما تقدّم دلالات مباشرة تتمثل في حقيقة أن المكانة المضمونة للولايات المتحدة على رأس المعسكر الغربي، أو "العالم الحر" (بمفردات الحرب الباردة)، والتي كانت جزءاً رئيساً من قوتها الصلبة والناعمة، ونفوذها في العالم، على مدار عقود طويلة، لم تعد كما كانت من قبل.

وما يُسهم في تعزيز خلاصة، بعيدة المدى والأهمية، كهذه، أن اعتراف الإدارة الأمريكية الحالية، في البيت الأبيض، بالقدس عاصمة لإسرائيل، لا يمثل خروجاً على مواقف تقليدية لإدارات أمريكية سبقت وحسب، بل ويمثل خروجاً على الشرعية الدولية، مُجسّدة في قرارات الأمم المتحدة، بهذا الخصوص، أيضاً.

ولا ينبغي التقليل، في كل الأحوال، من أهمية سابقة كهذه. فعلى الرغم من وجود سوابق لم تُحترم فيها قرارات الشرعية الدولية، كما يجب. وعلى الرغم من تضارب وجهات النظر، أحياناً، في تفسير المعاني الفعلية لتلك القرارات، وطريقة تطبيقها على الأرض، إلا أنها مثّلت دائماً مرجعية قانونية وأخلاقية للمجتمع الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأضفت شرعية على التدخل الأممي لحل النزاعات، وتحقيق التسويات، في أماكن مختلفة من العالم. وفي الولايات المتحدة نفسها وُلدت الأمم المتحدة في العام 1945، وأقامت فيها، كدولة مقر، حتى الآن.

لذا، لا يبدو من السابق لأوانه القول إن في خروج الأمريكيين على شرعية، ومرجعية، وقرارات الأمم المتحدة، ذات الصلة، ما ينتقص من مكان ومكانة الأمم المتحدة، من ناحية، وينتقص، بالقدر نفسه، من قوة أمريكا الناعمة، من ناحية ثانية. فلا أحد يستطيع ممارسة دور القوة الكبرى، أو ضابط الإيقاع، في العالم، بلا غطاء أخلاقي وسياسي يُستمد مِنْ، ويقوم على، مرجعية الأمم المتحدة، وهيئاتها المختلفة.

ولأمر كهذا أهمية استثنائية في وقتنا الحاضر، الذي تهب فيه رياح الحرب الباردة من جديد، ويشهد ظهور ميليشيات إرهابية عابرة للحدود والقوميات، وعولمة الظاهرة الإرهابية، التي تضرب في كل مكان من العالم.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بالعالمين العربي والإسلامي، (وللقدس فيهما مكانة تاريخية، ودينية، وسياسية، مثقلة بالرموز) فإلى جانب رفض القرار الأمريكي، قيل الكثير، في الأيام القليلة الماضية، عن تداعيات ومخاطر القرار، الذي يصب الماء في طاحونة المتطرفين. وهذا كله صحيح.

ولكن في تحديد عنوان واضح لكيفية الرد على القرار الأميركي، وترجمة الرد بطريقة سياسية، ما يُسهم في التقليل من التداعيات السلبية، ويفتح طاقة في أفق يبدو مسدوداً الآن. وبقدر ما أرى الأمر، ينبغي أن يقترن رفض القرار، ومطالبة الأمريكيين بالعودة عنه، بالإصرار على مبدأ الحل السلمي التفاوضي، القائم على حل الدولتين، وعلى ضرورة الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، بعد زوال الاحتلال.

وفي سياق كهذا، يمكن للأمريكيين، الذين خسروا، بعد القرار، مكان ومكانة الوسيط، استعادة ذلك الدور من خلال الالتزام بحل الدولتين، والاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. هذه، على الأقل (إذا كانت السياسة، فعلاً، فن الممكن) عناوين واضحة لتحشيد القوى، وتحقيق الإجماع، في الإقليم، والعالم، وسد الطريق على الساعين إلى اختطاف القضايا المصيرية، والمضاربة بها في سوق الدماء.