الإثنين 25 ديسمبر 2017 / 19:20

عودة عبد الحميد بعلبكي

إنّها بالفعل عودة، فالفنّان الّذي رحل بصمت منذ أعوام وبقي أثناء ذلك في ذاكرة القليلين من أهله وأصجابه، وغاب تقريباً عن الصحافة ومؤرّخي الفن- وهم تقريبا لا أحد- وإذا سمّوا كذلك فلأسباب اعتباريّة وزمنيّة، وليس أكثر.غاب عبد الحميد بعلبكي عن النقد والتأريخ وهما كما قلنا لتوّنا اعتباريان وصوريّان، مع ذلك فإن هذا الغياب أورث حسرة لأهله الّذين يحلّ الجيل الثاني منهم بين الأكثر صيتاً واعتباراً. ربّما ساهم ذلك في إعادته إلى الذاكرة فاسم عائلته لم يختف، بل زاد حضوراً في غيابه. المهمّ أنّ الحضور الثاني لعبد الحميد بعلبكي لم يكن لا مجدياً، بل أعاد الفنّان الّذي بقي معلّقاً وغير مستقرّ إلى مكانه في زمنه ومسار هذا الزمان، وكشف عن غبن لحقه، وعن ضرورة لا مراجعته وحده فجسب، بل مراجعة كلّ الفنّ اللبناني الّذي يلحقه كلّه الغبن نفسه مع الكثير من الاختلاط وسطو الظروف اللبنانيّة الثقافيّة والاجتماعيّة.

لا نستطيع أن نلوم أحداً معيناً على هذا الغبن إلاّ أن نعود باللائمة على الفنّان نفسه.فنحن أمام نمط من الفنّانين ذوي المزاج الغلاّب الذي يتمرّد على كلّ محاولة لنظم عملهم ونسقه ويؤثرون أن يبقوا في تشرّد دائم، أن يبقوا على مفترق لا يستقرّون في ناحية، رغم فرص الاستقرار التي أوجدوها بكدهم واكتشفوها بأنفسهم، فكأنهم في هرب من ذواتهم. عبد الحميد بعلبكي هو النموذج الصافي لهؤلاء. كلّ الأساليب وكل التجارب كأنه هرب من كل أسلوب وكل طريقة. ثمّ لا يقف الأمر هنا. شواغل عبد الحميد كثيرة، كثيرة على الفن. هناك الشعر والتراث الشعبي إلى جانب التصوير، بدون أولويات حاسمة، ثمّ هناك ضجر جعله يعود إلى بلدته ويبني بيديه أيضاً بيتاً ويهجر الفنّ.

هذه بالطبع سيرة محيّرة، ونكاد معها أن نفعل كما فعل النقّاد الّذين إنصرفوا عنه، لولا المعرض الاسترجاعي في "غاليري صالح بركات" الّذي أقيم للبعلبكي وكان بالفعل شاملاً لرجل يسلك طريقاً يستعصي على الشمول، في هذا المعرض البعلبكي العائد من فرنسا حيث درس الفنّ، وهو على أهبة أن يباشر حركة لتأسيس فن محلّي، لوحة "عاشوراء" عنت لكثيرين هذه الحركة.الشاب العائد يستلهم الواسطي، ليس فقط في التسطيح الذي كان من الأوائل الذين انتبهوا لهذا الأسلوب. 
 
اللوحة فضلاً عن ذلك، تواكب الواسطي في هندسته ذات الأصل البيزنطي للمكان وطريقته في تكتيل العناصر واستدخال الحشد في نسق إيقاعي متشابك ومتواز ومتناغم، الأمر الّذي يجعّلنا نتذكّر من يعيد الفن المكسيكي الحديث" وبخاصّة ريفييرا.نفهم من ذلك أنّ لوحة عاشوراء الّتي لم تتكرّر في فن بعلبكي ولا نعرف لماذا، فاللوحة الّتي كانت مشروع تخّرج من جامعة فرنسيّة حملت بوادر فن ملحمي شعبي في الوقت الذي تحمل فيه علائم  أساس هويّة وإرث محليين. ذلك الحين كانت لوخة عاشوراء بكلّ ما فيها نتيجة ما فيها، أسلوبها وموضوعها وتركيبها كانت في كلّ ذلك لقية حقيقيّة فحتّى ذلك الحين كانت الهويّة المنشودة في استيحاءات الخط وليس المنمنمة ال البحث في المنمنمات الّتي كان الواسطي من اهمّ مبدعيها.

نفهم من ذلك أن لوحة عاشوراء بكلّ ما حملته وما أشارت إليه كانت مشروعاً مستقبلياً، أو بالأحرى كانت جواباً ناضجاً بالمعنى النظري والتطبيقي، وكانت بهذا المعنى فاتحة تجديد ما كان أحوج الفن العربي إليه. وما كانت تشكو اللوحة منه، كالتكتيل المفرط، إنّما يحسب للوحة لا عليها، فهكذا كانت اللوحة اقتراحاً على الفن ومشروعاً مستقبلياً ورسالة ونموذجاً لبحث نظري وعملي. هذا يجعل السؤال عن عدم تكرارها هي الواعدة بتيّار ومدرسة ملغزاً.لقد لستغنى البعلبكي، وبدون سبب واضح عن مشروع كان يمكن أن يكون مشروع حياته. كان ينتظر منه بعد الصدى الذي أثارته اللوحة أن تكون فاتحة تيّار، لكنّ هذا لم يحدث.له لم يكن للمنمنمة الواسطيّة أو سواها الرجع الّذي تردد للحروفيّة.هذه بحد ذاتها مسألة نظريّة، أمّا معرض البعلبكي الإسترجاعي فيلفت بملوّنته المضيئة ومتانته وحرفيته