الزعيم الليبي الراحل العقيد معمر القذافي (أرشيف)
الزعيم الليبي الراحل العقيد معمر القذافي (أرشيف)
الإثنين 28 مايو 2018 / 20:47

أصنام أنفسهم

يقول فارغاس يوسا إن المثالية هي مهد الفاشية. يوسا الكولومبي كبير روائيي أمريكا اللاتينية وحائز نوبل يساري قديم تخلى عن بطاقته اليسارية وليبرالي دائم ومثقف كبير. ما قاله عن المثالية وعاقبتها الفاشية يردنا الى ما يحدث في العالم العربي. الطغم العسكرية التي توالت على الحكم في البلدان العربية بعد سقوط فلسطين.

قامت دول الضباط بإصلاحات فعلية على أكثر من صعيد لكن مثالها الأعلى كان، بدرجة أو أخرى، سوفياتياً أو بالأحرى كان فاشياً

هل هي أمثلة على هذه الفكرة أم أن الأمر كان هكذا في أوله. الضباط الذين استولوا على الحكم في مصر، والسودان، وموريتانيا، وتونس، والجزائر، وسوريا، والعراق، وليبيا، قبضوا على السلطة ببرنامج قومي تحديثي اجتماعي، قوامه التحرير والوحدة والتصنيع والاشتراكية.

لسنا بحاجة الى تعداد ما ينقص هذا البرنامج فقد كان بحق برنامج المرحلة، لكنه بقي محض كلام رغم ما طبق منه. كان البرنامج يحتاج الى دول ومجتمعات وهذه لم تكن جاهزة ولا قادرة. قامت دول الضباط بإصلاحات فعلية على أكثر من صعيد لكن مثالها الأعلى كان، بدرجة أو أخرى، سوفياتياً أو بالأحرى كان فاشياً.

ضباط شبان جاؤوا من الطبقات الوسطى وعانوا السلطة البطريركية لملوك وسياسيين من الطبقة العليا. لعلهم في البدء كانوا مثاليين واستمروا على ذلك، عبد الناصر مثلاً لم يكن فاسداً ولم يتلاعب بمال الدولة ولا بوظائفها. لا نشك أن بن بيلا كان كذلك ولا نظن أن صلاح جديد كان جشعاً ومتلاعباً بالسلطة، القذافي لا نعرف أين طارت ملايينه التي تكلموا عنها أثناء الانتفاضة.

 طبعاً لم يكن أولاد هؤلاء ولا خلفاؤهم بالنزاهة نفسها، لم تكن كذلك حاشيتهم ولا مساعدوهم، بالطبع لم يعلموا ذلك أو سكتوا عنه كان هؤلاء حوارييهم وتلامذتهم وبالتأكيد ظلوا يفكرون أنهم رغم كل شيء ضيوف المستقبل، ومغفورة لهم خطاياهم لهذا السبب. لقد أملوا بهم كثيراً ولم يسألوا، أو سهوا عن أن يسألوا عما فعلوا.

لم يكونوا هم الكبار والأوائل والمبتكرين، لم يكونوا جشعين ولا متلاعبي سلطة، لكنهم كانوا مثاليين وككل المثاليين آمنوا كثيراً بأنفسهم، ككل المثاليين صدقوا كثيراً أنفسهم ولم تخطر لهم فكرة الا وحسبوها وحياً، حسبوها تجلي الحقيقية وإلهام الصواب واليقين ذاته، غير مجروح ولا مشوش ولا مختل.

تذكروا خطبهم وأقوالهم، بل تذكروا خطب خلفائهم وأقوالهم فالسلسلة واحدة. ما خطر للآباء والمؤسسين صدقه الخلفاء أو تلاعبوا وتظاهروا به، أو حفظوه غيباً واكتفوا بتلاوته واستعادته وتصنيمه. لقد كان الكبار والمؤسسون أصحاب وحي، كانوا مبتكرين أو أصحاب أفكار وخطط، أو في الأقل ناسخين وسارقي أفكار، لكنهم اقتنعوا قبل غيرهم أنهم ملهمون ومعلمون وأنهم أساتذة، بل أنهم في الغالب حسبوا أنهم يقرأون المستقبل، وأن خططهم تكفي للبشرية كلها، وأنها ستبقى كذلك أجيالاً وقروناً، وقد تبقى الى الأبد.

الآن نحن نسمعهم ونقرأهم فلا نجد كشوفات ولا لقى كثيرة، بل يحملنا ما نسمعه ونقرأه أحياناً على الضحك، لفرط ما نجد فيه من رنين لا يروي ولا ينفع، من إعادات وتقليد وسذاجات وشعبوية، وكل ذلك لم يكن لولا الافتتان بالذات، لولا تورم الأنا ولولا عبادة النفس، ولولا غرور يمنع صاحبه من أن يحسب لذكاء الناس وعقولهم.

إنه إيمان بالنفس يجعل صاحبه لا يقيم وزناً لجمهور ولا جماعة، إن كلمته لا تسأل ولا تحاسب ولا يُنظر فيها، بل إنها تسقط على الناس من فم الذهب والحق الخالص. ليس الحضور تحت منبر الزعيم الا جهالاً يتعلمون منه، أو تائهين يهديهم الى الجادّة، والا عطاشة للحقيقة، وها هم يبصرونها تنزل عليهم من أعلى. هؤلاء الكبار جعلوا من خطراتهم عقيدة كاملة وتعليماً وفلسفة كونية أحياناً.

ألم ينشر أحدهم من لمامات وشروحات جاءته من كل صوب كتاباً أخضر أو أحمر جعله قدسياً ونظرية كونية وحديثاً للمستقبل. لم يكن القذافي وحيداً في ذلك، البعثيون المؤسسون ومن أعقبهم أنشأوا عقيدة للأمة وديناً جديداً لها وتعليماً ودروساً، جعلوا من كل لفظة تخرج من أفواههم حكمة للأجيال وأوصوا بتغييبها عن ظهر قلب، وأقاموا لذلك مدارس أو زوايا وأركاناً، أو أقحموه في برامج التعليم واخترعوا له حفّاظاً وشارحين.

لقد صدقوا أنفسهم، كانوا أول من يعرف بما يخظر لهم، أول من يؤمن به، وأول من يتلوه على الناس، وأول من يحفظه وأول من يوصي بحفظه وتقديسه. ولأنه بالنسبة لهم الحق الصُراح فلم يكن من حق أحد أن ينكره أو ينتقده أو يهزأ منه. لذلك كله سُنّت عقوبات ليس الإعدام بعيداً عنها، وبالتأكيد فإن التعذيب هو ركن التعليم والانتقاد هو التجديف والكفر خالصين، فليس التعذيب منكوراً في هذا الباب.

هكذا يصنّم المثالي نفسه ويعبدها ويجعل منها هيكلاً وقدساً. هكذا لا تعقب المثالية سوى التعليم المزور والجحيمي، سوى الفراغ الذي تعيش عليه، وتجتهد لكي يبقى هذا الفراغ سائداً ومخيماً. الثقافة والفكر والفلسفة هي جميعها من صنع الدولة أو صنع الزعيم والدولة وأجهزتها، والبوليس والسجون من ورائه.

كان ستالين وبوليسه يأخذون المرأة بكلمة أو حتى بريبة، أو حتى يتعلقون على الواحد بكذبة أو شبهة كاذبة والنتيجة أن العقيدة الحاكمة لا تزال ترتاب وتأخذ الناس بالريبة. لا تزال تجازي بالسجن والقتل أي شبهة من أي نوع يتجاوز هذا المثالية طبعاً، لكن المثالية الحاكمة التي تتدين لصاحبها ولزمرته هي الأصل في ذلك، وهي أساس ذلك الرعب ومصدره.