الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحماس اسماعيل هنية (أرشيف)
الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحماس اسماعيل هنية (أرشيف)
الإثنين 3 سبتمبر 2018 / 19:20

من يجرؤ على الكلام في بامبوزيا؟

بامبوزيا هي دولة متخيلة قدمها فيلم "الديكتاتور" نموذجاً للدولة المستباحة التي يحكمها زعيم فاسد محاط بأبنائه ومقربيه الذين يقتاتون من فقر الجموع وعذابات الجياع.

في البامبوزيتين يتنافس أولو الأمر على إرضاء إسرائيل، ويتصارعان على الأحقية في التوقيع على اتفاقات التنسيق والتهدئة والهدنات مع قوات الاحتلال، في مشهد مخجل ونقيض لللتنافس بين الأطر القديمة

لم يحدد الفيلم هوية الدولة، ولم يلمح إليها، لكن القصة تشير إلى نموذج حي للكيان الفاشل في أكثر من دولة في العالم الثالث.

في بامبوزيا يتحكم الزعيم في كل شيء ويملك كل شيء بدءاً من الحكومة والبرلمان وانتهاءً بالمصانع والمزارع وحتى أكواب الشاي التي تطبع عليها صورته.

كان في الفيلم الكوميدي بعض المبالغة التي بدت ضرورة درامية، لكن محور القصة صور بصدق واقعاً معاشاً في الكثير من الدول وأشباه الدول في كيانات مبتلاة بالطغاة.

أتذكر فيلم "الديكتاتور" وأنا أتابع ما يجري في بامبوزيا الفلسطينية في رام الله، وكيف استطاع الحاكم فيها أن يستحوذ على رئاسة كل السلطات في الحزب الحاكم وفي المنظمة التي ينبغي أن تكون ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب على امتداد جغرافيا انتشاره في الوطن المحتل، وفي الشتات القسري، وكيف تمكن من رئاسة الحكومة وتوجيه القرار في البرلمانين، التشريعي في الداخل والوطني في الداخل والخارج، وكيف حوله الكهنوت السياسي والإعلامي إلى رمز ثوري، رغم تقديسه للتنسيق الأمني مع الاحتلال، وتشبثه بشطب خيار المقاومة، وانفتاحه على التسويات الظالمة للفلسطينيين، وفي الوقت نفسه تبني خطاب ثوري مثير للإعجاب ومفجر للدهشة في تناقضه مع الفعل السياسي والأمني للزعيم وأجهزته المتمتعة بالدعم الأمريكي المقطوع عن "الأونروا".

وعلى العكس من الديكتاتور السينمائي، يبدو زعيم بامبوزيا الفلسطينية ذكياً جداً، بل عبقرياً، حين يجمع بين حسن الخطاب وبؤس الأداء، فيشارك في حصار غزة ويخنق أهلها ويفصلها عن الضفة، ويؤكد في الوقت نفسه كم هي عزيزة على قلبه وكم يتمنى أن يرى شواطئها قبل أن يموت! ويجد من يصفق لخطابه، ومن يذرف الدموع تأثراً بعاطفة الزعيم وشوقه إلى حرية جنوب وطنه.

ويبدو أن نموذج بامبوزيا كان مناسباً أيضاً لطرف فلسطيني آخر يحكم غزة بخطاب الورع والتقوى ويستنسخ نموذجه الخاص للديكتاتور الملتحي الذي يبشر الناس بالآخرة ويصادر حقهم في الدنيا، ويعلي الصوت في تهديد العدو الكامن على بعد أمتار من السياج الحدودي، والذي يتحكم في عدد أكياس الطحين المسموح بدخولها إلى القطاع، بينما يعمل في السر وفي العلن على منافسة بامبوزيا رام الله في التنسيق الأمني، ويسعى إلى تهدئة أمنية مع الاحتلال قد تمتد إلى عشر سنين وكأن العمر في عشرات كثيرة من سنين القمع الاحتلالي والقهر الدعوي الذي يراقب أفكار الناس وتدويناتهم ورسائلهم النصية القصيرة.

في بامبوزيا رام الله يستثمر الزعيم في كل شيء، فيسيطر أبناؤه على شركات الاتصالات وتجارة السجائر وسوق العقار، وفي بامبوزيا غزة يستثمر ولي الأمر وحزبه الحاكم في كل شيء بدءاً من تجارة التهريب عبر الأنفاق وصولاً إلى رشاوى التنسيق في كشوف المسموح لهم بالسفر للالتحاق بأعمالهم أو جامعاتهم أو حتى لتلقي العلاج في المستشفيات.

وفي البامبوزيتين يتنافس أولو الأمر على إرضاء إسرائيل، ويتصارعان على الأحقية في التوقيع على اتفاقات التنسيق والتهدئة والهدنات مع قوات الاحتلال، في مشهد مخجل ونقيض للتنافس بين الأطر القديمة في ساحة المقاومة والتصدي للقمع الاحتلالي.

الكل غارق في التفاصيل، ولا أحد يريد رؤية المشهد الموجع، كما هو وبلا رتوش، ولا أحد يجرؤ على الكلام، لأن القمع البامبوزي في الجهتين فاق قمع الاحتلال الغريب. لكن الصمت عمره قصير، وسيجيء يوم تسقط فيه الديكتاتورية البامبوزية في الضفة والقطاع، وسيعود الشهداء إلى الحياة، وسيؤكد صلاح خلف أنه سيكون لنا ذات يوم.. وطن.