الفقاعة النووية بعد انفجار قنبلة هيروشيما (أرشيف)
الفقاعة النووية بعد انفجار قنبلة هيروشيما (أرشيف)
الأربعاء 13 فبراير 2019 / 20:33

إرادة القوة

في 1961 سأل هنري كيسنجر، الشاب وقتها، الرئيس الأمريكي هاري ترومان، عن السبب الأول لاعتزازه برئاسته، فأجاب ترومان: "ألحقنا هزيمةً كاملةً بأعدائنا ثم أعدناهم إلى الأسرة الدولية. يطيب لي أن أعتقد أن أمريكا وحدها كان من شأنها أن تفعل هذا".

مريكا تدخلتْ في كل شبر على وجه الأرض، منذ الحرب الباردة، بحثاً عن شيء ما، ولا نعرف عن ماذا، وما زالتْ، تبحث

تولى هاري ترومان رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية من 1945 إلى 1953، أي كان هو صاحب قرار رمي اليابان في الحرب العالمية الثانية بقنبلتين نوويتين، وبهذا عادت اليابان من يومها إلى حضن الأسرة الدولية.

الغريب أن اسم هاري ترومان لم يُلحق في التاريخ، اللاحق على الأقل، بأسماء القادة والزعماء الذين أخذوا لقب مجرمي الحرب.

في البداية تكون القوة، ثم تأتي بعدها الديمقراطية، والقيم الإنسانية. اليابان هي الدولة الوحيدة التي ضربت بسلاح نووي، ومع ذلك لم تطالب الولايات المتحدة بتعويضات مادية، كما فعلت إسرائيل مع ألمانيا، التي ما زالت تدفع فاتورة أدولف هتلر. التفسير الوحيد هو أن فوز الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، كان يعني فوز إسرائيل.
  
تثير القوة في القلوب مشاعر الخوف والإعجاب والاستكانة، القوة ليست تهديداً، وهي لا تُختزن، فالدول التي تملك سلاحاً نووياً، بمعنى ما، مثل روسيا وفرنسا والصين والهند وبريطانيا، هي في حقيقة الأمر لا تملكه، طالما لم تستخدمه بعد في حرب حقيقية، ولهذا تتمتع أمريكا وحدها بامتياز حيازة السلاح النووي.

يُكمل هاري ترومان حديثه مع هنري كيسنجر قائلاً، إنه يُفضل ارتباط اسمه في التاريخ، بمصالحات أمريكا الديموقراطية والإنسانية، أكثر من أن يرتبط اسمه بالانتصارات العسكرية.

تحققت في التاريخ أمنية هاري ترومان، فهو لا يذكر اسمه كثيراً عند الحديث عن ضحايا هيروشيما وناغازاكي، بل إن هنري كيسنجر، عندما جاء على ذكر مقابلته مع هاري ترومان في كتابه "النظام العالمي تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ"، اكتفى فقط بأن غاية أمريكا هي هزيمة العدو حتى يعود إلى الأسرة الدولية.

العدو لأمريكا عليه أن يخضع خضوعاً تاماً دون شرط مسبق، حتى يتحول إلى حليف، أو إلى صديق. تحدد أمريكا طبيعة العداء، وهي طبيعة متغيرة، تخضع في النهاية لحسابات المصالح الأمريكية. ظل، كما يقول كيسنجر، رؤساء الولايات المتحدة من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، مستمرين في حض الحكومات الأخرى على احتضان حقوق الإنسان وتعزيزيها.

لم يقل كيسنجر أن حض الحكومات، كان مشفوعاً دائماً باستخدام القوة العسكرية.

أوجز جون كوينسي آدامز، الرئيس السادس للولايات المتحدة الأمريكية، بين 1825و 1829، ميول أمريكا غير الاستعمارية، عكس أوروبا، على حد تعبير هنري كيسنجر، قائلاً: "في جمعية الأمم ظلت أمريكا حريصة على مد يد الصداقة دون جدوى، يد الحرية المتكافئة، يد التبادلية السخية، بقيت أمريكا ثابتة على مواصلة رفع صوتها، بلغة التحرر، ولغة العدالة، ولغة الحقوق، ظلت طوال نصف قرن، تحترم استقلال الدول الأخرى، مع تأكيد استقلالها".

البلاغة الإنشائية للمؤسسين الأوائل في الولايات المتحدة، مثل فقرة كوينسي السابقة، تستخدم عادةً مادة للعلوم السياسية في المدارس والجامعات الأمريكية. أما عن نقد هنري كيسنجر لكلمات جون كوينسي آدامز، فيأتي نقداً ملتوياً، وعلى حياء، نقداً يفترض النية الحسنة، وهو كالتالي: ولأن أمريكا تلتمس التحرر لا السيطرة، فإن عليها كما جادل آدامز، تجنب التورط في جميع صراعات العالَم الأوروبي.

كان من شأن أمريكا أن تصون موقفها الفريد في معقوليته ونزاهته، طالبةً الحرية وكرامة الإنسان عن طريق التعاطف من بعيد.

نقد هنري كيسنجر لآدامز، بالكاد نعتبره نقداً، أو قراءة تاريخية، بل هو تمرير لازدواجية القول والفعل، وللحس نقده تماماً، لواحد من المؤسسين الأوائل، يختتم كيسنجر تحليله، بإكمال فقرة جون كوينسي آدامز، التي تقول: "لا تذهب أمريكا للخارج بحثاً عن غيلان لتدميرهم، هي تتمنى الحرية والاستقلال للجميع، إلا أنها ليست البطلة والمدافعة، هي تدافع عن حريتها واستقلالها فقط".

الواقع أن أمريكا تدخلتْ في كل شبر على وجه الأرض، منذ الحرب الباردة، بحثاً عن شيء ما، ولا نعرف عن ماذا، ولاتزال، تبحث، وبنفي بحثها عن الغيلان كما أكد آدامز على طبيعتها منذ ما يقرب من قرنين، وهي طبيعة أخلاقية خيرة، وبصعوبة افتراض بحثها عن حريتها، أو استقلالها في بقاع الأرض، فلم يبق أمامنا سوى شيء واحد لا تستطيع أمريكا تسميته، وهو البحث عن مصادر الثروات للتحكم فيها، وإضافتها إلى الثروات الأمريكية.