الجمعة 10 مايو 2024 / 12:07

لك يا منازل في القلوب منازل

"أن تكون متجذراً ربما يكون أهم الأمور وأقلّها تقديراً للروح البشرية"، هكذا كتبت الفيلسوفة الفرنسية سيمون وايل.
تبرز ملاحظة الفيلسوفة العميقة حقيقة أساسية عن مفهوم المنزل، وهي أنه ليس مجرد هيكل مادي، بل هو بوتقة للتجربة الإنسانية والذاكرة والهوية لساكنيه.
المنازل هي المسارح التي تعرض فيها دراما الحياة اليومية بكافة تفاصيلها. إنها أشبه ما يكون بمستودعات الفرح والحزن واللحظات العادية لكن ذات المعنى الكبير التي، عندما تجمع معاً، تشكّل نسيج وجود الفرد. الجدران لا تحمل فقط وزن السقف، بل تشهد على الحياة التي تعاش داخلها.
وُلدتُ وترعرعتُ في بيت مليء بأشجار المانجو المختلفة نوعاً وحجماً. ولا زلت أذكر كيف كنت أتسابق مع أشقائي للحصول على ثمارها التي أسقطتها الأمطار والعواصف، وتسلّق أغصانها من أجل قطف ثمارها اليانعة. هذه الذكريات الجميلة هي التي جعلتني دون وعي مني أزرع الكثير من أشجار المانجو في منزلي بعد أن أصبح لي منزل مستقل، وبالتالي سأورّث حب شجرة المانجو وثمارها لأبنائي وبناتي.
يستكشف الفيلسوف غاستون باشلار في كتابه "جماليات الفضاء" كيف تحتفظ منازلنا بأحلامنا وذكرياتنا. ويجادل بأن كل زاوية في غرفة أو جدار متشقّق أو أرضية غير ملساء يمكن أن تثير سيلاً من الصور والعواطف من ماضينا. وبذلك، فإن المنزل ليس مجرد مأوى بل هو وعاء للذاكرة، لا ينفك أن نغترف منه بين الفينة والأخرى.
يمكننا القول إن  المنازل تعكس الهوية الثقافية والأخلاقية لسكانها بوضوح في الثقافات المختلفة، على سبيل المثال: المنزل الياباني التقليدي، مع أرضياته التاتامي وأبوابه المنزلقة. هذه العناصر ليست مجرد معمار، بل هي تعبير عن تأكيد ثقافي على البساطة والطبيعة والوعي. التصميم البسيط يعكس الطبيعة التأملية والنظر إلى الداخل للفلسفة اليابانية التقليدية.
بالمثل، تعكس الألوان الحيوية والفوضوية لمنزل هندي تقليدي مع رانجولي (تصاميم ملونة تصنع على الأرض باستخدام الأرز أو مسحوق ملون) خلال المهرجانات، تعلق البلاد العميق بالاحتفال وتجمعات العائلة وفسيفساء الممارسات الدينية. كل غرفة تدوي بقصص، من حكايات الأجداد إلى ضحكات الأطفال، مما يجعل هذه المنازل نسيجاً من الروابط الجماعية والعائلية.
في الدول الإسكندنافية، مفهوم 'هيغه'—جودة الراحة التي تولد شعوراً بالرضا أو الرفاهية—غالباً ما يمثل مادياً في المنزل من خلال النسيج الدافئ، والمدافئ، والوهج الناعم لضوء الشموع. هذه العناصر لا تقاوم البرد فحسب، بل تصنع أيضاً بيئة تغذي التجمع والراحة، مما يعكس القيم الاجتماعية للوئام الاجتماعي والسعادة.
هذه المنازل، التي تعكس الثقافات التي تنبع منها، هي أكثر من مجرد مبانٍ، إنها استجابة للبيئة الطبيعية والاجتماعية على حد سواء، وتجسيد لقيم وفلسفات الأشخاص الذين يعيشون فيها.
هذا الصدى الثقافي هو ما يجعل منازلنا ملاذات للعزاء. كما قال الشاعر البريطاني كريستيان نيفيل بوفي: "منازلنا مثل جلد ثانٍ يحتوينا براحة في كل من مألوفيتها وموثوقيتها". إنها الأماكن التي ننسحب إليها ليس فقط للمأوى الجسدي ولكن للتجديد العاطفي.
فإلى جانب العناصر الملموسة للهندسة المعمارية والتصميم، يمتد مفهوم المنزل إلى النطاق الفلسفي للانتماء والهوية. يقول الفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر إن الفضاء ليس مجرد كيان مادي بل هو بناء اجتماعي، يشكّل من خلال التفاعلات والتجارب التي تحدث داخله. وبذلك، يصبح المنزل كياناً ديناميكياً، يعاد تعريفه باستمرار من خلال العلاقات والأنشطة التي تملأ غرفه. إنه ليس ثابتاً، بل يتطور مع قصص حياة سكانه، وتتردد كل غرفة بالتحولات والتغيرات على مر الزمن.
تتحدى هذه الرؤية إدراكنا للمنازل ليس فقط كملاجئ مادية ولكن كأجزاء حية من سردياتنا الشخصية والجماعية. المنازل هي المكان الذي ينمو فيه الأطفال، حيث تتماسك الصداقات، وحيث يزدهر الحب.. كل من هذه الأحداث تترك علامة لا تمحى على الفضاء، محوّلةً مبنى عادياً إلى شاهد على معالم الحياة. في هذا المعنى، يعمل المنزل كلوحة، مرسوم عليها بضربات واسعة من الحياة الجماعية وتفاصيل دقيقة من العزلة الفردية، محتضناً تعقيدات الحياة الإنسانية.
من خلال رؤية منازلنا عبر هذه العدسة الفلسفية الأوسع، نعترف بها كأكثر من مجرد هياكل، إنها من  أساسيات وجودنا، وضرورية لعمارة حياتنا الداخلية وكذلك واقعنا الخارجي.