ناشطون لبنانيون يتظاهرون ضد الطائفية.(أرشيف)
ناشطون لبنانيون يتظاهرون ضد الطائفية.(أرشيف)
الإثنين 18 مارس 2019 / 18:53

حين تكون الفرقة هي القاعدة

كان هناك بين اللبنانيين من يعتبرون لبنان واسطة بين الشرق والغرب، بل يعتبرون أنفسهم أبعد ما يكون عن العرب وليس هناك من يوصي بأن يكون اللبنانيين أو غيرهم عرباً

يمكن أن نقول إن العلاقات الطائفية اللبنانية هي اليوم في أكثر أوقاتها علانية وصراحة. بل يمكن القول إنها العلاقات الوحيدة الراسخة والأرجح أن الأمر لم يكن كذلك في يوم في هذه الدرجة من الجموح والانفصال. لو عدنا إلى الحروب الأهلية وبخاصة الحربين الأخيرتين لبدا واضحاً أن ليس هناك ما يجمع اللبنانيين، وأن الفرقة بينهم هي القاعدة وأن ليس غير ذلك ما يجمع ويوحّد. مع ذلك لا يبدو أن المسألة في العمق دينية وأن الفارق ديني في الأساس. من الواضح أن اللبنانيين ليسوا الأكثر تديناً، بل من الواضح أن الولاء الديني ليس عميقاً ولا راسخاً. اللبنانيون هم بين الشعوب العربية الأكثر تحرراً والأكثر حرصاً على حرياتهم، ما يجعل منهم الأقل تشدداً. لا نستطيع القول إنهم منغلقون من هذه الناحية، وأن النعرة الدينية على أشدها عندهم. بالتأكيد نجد لدى غيرهم نعرات أكبر وانغلاقاً أشد وتعصباً أقوى بل إن أحزابهم الدينية تكاد تكون الأكثر تسامحاً.

العنوان الديني هو اسم آخر للعشيرة واسم آخر للجماعة والطائفة. الاسم الديني هو تقريباً مجرد اسم. إنه فقط الجماعة التي يربطها تماماً الدين بما هو بالدرجة الأولى يشبه القرابة. ما يربطها تقريباً هو ما يشبه العائلة أو لا نقل أيضاً أن ما يربطها هو أيضاً ما يجعلها بعيدة عن الجماعات الأخرى. إنها المنافسة والمباراة مع الجماعات الأخرى. شيء أشبه بالتحاسد، شيء أشبه بالمنافسة وبلعبة النفوذ وبالتباهي أو الوجاهة. لنقل أن ثمة جماعة ترى نفسها أرقى وأكثر تفوقاً من الجماعات. لنقل أن ثمة جماعة ترى نفسها أقرب الى المدنية وإلى الحداثة وإلى التقدم، لنقل أن ثمة جماعة ترى نفسها أقرب إلى الغرب أو ترى نفسها غربية.

كان هناك بين اللبنانيين من يعتبرون لبنان واسطة بين الشرق والغرب، بل يعتبرون أنفسهم أبعد ما يكون عن العرب وليس هناك من يوصي بأن يكون اللبنانيين أو غيرهم عرباً، فثمة من هم عرب مستعربة في أيام الرسول ومن سبقهم هم عرب عاربة أي أنهم أسبق الى العربية، بينما لا يعد العرب المستعربة عرباً، فهذه السين والتاء تعنيان أن أهلها ألحقوا بالعربية إلحاقاً والتحقوا بالعربية التحاقاً. ليست عروبة هؤلاء وعروبة أبنائهم وأحفادهم مثبتة بل هي أقرب إلى الإضافة والإلحاق. هذا ما انعقد عليه الرأي في زمن الإسلام وما قبل الإسلام، لكن إنكار عربية العرب المستعربة ليس بالطبع اعتداء على الأصل الا أننا بذلك لا نجد مرجعاً للعراقيين أو اللبنانيين وأهل الشأم و،بالطبع عرب المغرب، لا نجد مرجعاً ينفي عن هؤلاء إستعرابهم وساميتهم، ما داموا هم نفوا عن أنفسهم عربيتهم واستبدلوها بعربية مضافة وملحقة.

لكن أكثر الأمور مثيرة للاستغراب وباعثاً على العجب هو نسبة شعب من هذه الشعوب إلى مرجع غير مسمّى وغير محدد، بل ونسبة شعب من هذه الشعوب إلى الغرب وإلى المتوسطية والى غير ذلك مما لا يعتد به، أو مما يبدو ادعاؤه ليس أكثر من ادعاء وليس أكثر من انتحال وتمنّ بحت. وبالطبع هذا لا يزيد عن الانتحال او التمني بل لا يزيد عن انتساب منحول ومزعوم. الجماعة في هذه الحال تنتمي الى ثقافة مزعومة وإلى نسبة لغوية أو دينية أو ثقافية ليس غير. وبطبيعة الحال فإن الجماعات في مثل هذا الوضع تختار لنفسها نسباً تريده لها أو تتمناه لنفسها وهو نسب يبعدها بالكامل عن أصولها كما يبعدها بالكامل عن لبنان فإننا لا نجد ما يؤصل للجماعات بل سنجد أن الجماعات تبادلت النسب وتبادلت الدين وتبادلت اللغة وانتقلت من نسب الى نسب ومن دين الى دين ومن لغة الى لغة، بل وتبادلت الاعراف والتقاليد وتخلت عن الاعراف والتقاليد بل الأنساب والمذاهب. وما هو الآن مذهب هذه الجماعات وما هو ثقافاتها هو في الغالب مخترع ومنسوب إلى ثقافات بعيدة ومصادر بعيدة ومبتدعة. هكذا تتكون الجماعات على نحو مصنوع وتُجمع بين أزمنة وبين الطوائف وبين تواريخ، وتدّعي لنفسها أنساباً ولغات ومذاهب ليس عهدها بعيداً ولا تاريخها قصياً وإنما هي قريبة العهد قريبة التاريخ.