رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه.(أرشيف)
رئيس الوزراء الفلسطيني محمد أشتيه.(أرشيف)
الأحد 9 يونيو 2019 / 19:32

المطلوب التحديق أكثر في المرآة

هذا، في الواقع، أسوأ ما يمكن أن يحدث للسلطة، والمنظمة، على حد سواء، في وقت تنشأ فيه حاجة مُلحة، وربما مصيرية، أكثر من أي وقت مضى، لالتفاف الشعب حول قيادته وممثليه الشرعيين

لعل من نافلة القول التذكير بحقيقة أن السلطة الفلسطينية في وضع لا تحسد عليه. فعلاوة على انسداد الأفق السياسي، والفشل في استعادة قطاع غزة، الذي استولت عليه حماس، تجد نفسها اليوم في مجابهة "صفقة القرن"، وما نجم عن موقفها من تدهور العلاقة مع الأمريكيين. ولا يخفى على أحد ما يترتب على موقف كهذا من فواتير سياسية ومادية كثيرة، وضرائب باهظة الثمن، ينبغي تسديدها.

وهذا ما فاقمته، أيضاً، حقيقة أن الموارد المالية الذاتية للسلطة محدودة، وقد تضررت إلى حد كبير بعدما صادر الإسرائيليون مبالغ مالية طائلة من الضرائب المفروضة على ما يستورد الفلسطينيون من بضائع، عقاباً للسلطة الفلسطينية على تخصيص مساعدات شهرية لعائلات الأسرى في سجون الاحتلال. ومن المعروف أن عائدات الضرائب المذكورة تغطي جانباً كبيراً في موازنة السلطة من شهر إلى آخر.

وهذا، بدوره، أرغم السلطة الفلسطينية على تبني إجراءات تقشفية صارمة من بينها تسديد نسبة خمسين بالمائة من رواتب الموظفين العموميين في الأشهر القليلة الماضية، وقول مسؤولين في الحكومة مباشرة، أو مداورة، إن السلطة قد تجد نفسها عاجزة عن تسديد المرتبات، والنفقات التشغيلية، بعد أشهر قليلة، ما قد يؤدي إلى انهيارها.

وبالنظر إلى حقيقة أن أغلب العاملين في الوظيفة العمومية يقترض من البنوك، بضمان الراتب، لتسديد نفقات وحاجات معيشية مختلفة، فمن الواضح أن نصف الراتب لا يكفي في حالات كثيرة حتى لتسديد القيمة الشهرية للقرض نفسه، ناهيك عن انخفاض القدرة الشرائية، وانكماش السوق، وما يُلحق هذا وذاك من ضرر بشرائح اجتماعية مختلفة أوسع بكثير من شريحة موظفي الحكومة.

ويمكن في هذا السياق فهم ردود الفعل الغاضبة، من جانب الناس، في وسائل ومنصات التواصل الاجتماعي بشكل خاص، بعدما تسرّبت وثائق ومعلومات تفيد أن وزراء السلطة الفلسطينية حصلوا منذ عامين، وبأثر رجعي، على زيادة في مرتباتهم بلغت 67 بالمائة. ولا يبدو من قبيل المجازفة القول إن حادثة كهذه لو وقعت قبل سنوات لما أثارت هذا كل القدر من الغضب، الذي يجد تفسيره، وما يبرره، الآن، في تدهور المستوى المعيشي لقطاعات واسعة من الناس، وحقيقة أن الزيادة كانت طي الكتمان.

وهذا، في الواقع، أسوأ ما يمكن أن يحدث للسلطة، والمنظمة، على حد سواء، في وقت تنشأ فيه حاجة مُلحة، وربما مصيرية، أكثر من أي وقت مضى، لالتفاف الشعب حول قيادته وممثليه الشرعيين. ولا فائدة في هذا المجال من التذكير بأمور من نوع أن معدلات الفساد في السلطة لا تبدو استثنائية مقارنة بحالات أخرى في الإقليم والعالم.

ومع ذلك، وحتى إذا كان ثمة من فائدة، فلا ينبغي لمقارنات كهذه أن تكون مدخلاً للشفاعة، أو التهوين من حجم الضرر، فالأوضاع الاستثنائية التي يعيشها الفلسطينيون في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وافتقار السلطة للسيادة على إقليمها، وفقدانها لحق التحكّم في مواردها المالية وهي محدودة في كل الأحوال، أو حتى حرية الاستثمار، وتعظيم الموارد، واعتمادها على المساعدات من بلدان في الإقليم والعالم، يستدعي قدراً استثنائياً من الصرامة والشفافية في التعامل مع المال العام.

وبهذا المعنى، أيضاً، إذا كان من الممكن إدراج العودة عن الزيادة المذكورة، بقرار رسمي، في باب جبر الضرر، فليس من السابق لأوانه القول إن طريقة الحكومة في التعامل مع المال العام، وسُبل إنفاقه، ينبغي أن تصبح مرشحة لمزيد من الرقابة الشعبية في قادم الأيام.

ومع ذلك ثمة أسئلة لا تحتمل التأجيل: هل تمثل حادثة كهذه مدخلاً لحوار عقلاني بين الحكومة والقوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني لا لجبر الضرر وحسب، ولكن لاستعادة وبناء جسور الثقة بين السلطة وجمهورها، أيضاً؟ وهل تملك السلطة، فعلاً، في ظل الوضع الراهن، وتحدياته المادية والسياسية، ما يكفي من الوقت، والمرونة، وبعد النظر، لإدخال تعديلات بنيوية على هيكلها التنظيمي والإداري، على الأقل بما يمكنها من مجابهة تحديات مصيرية، وغير مسبوقة؟

هذه أسئلة مفتوحة بطبيعة الحال، وتحتمل اجتهادات مختلفة، ولكن التفكير فيها، وما يندرج في حكمها، أكثر فائدة وأهمية من إطلاق العنان لغريزة التشفّي، أو الاكتفاء بالرضا الذاتي بعد الوعد بالعودة عن الزيادة، وكأن ما حدث كان مجرّد حادثة عابرة. فالشرخ كبير، والمخاطر جدية، وفي الأمرين ما يستدعي وقفة طويلة مع الذات، والتحديق أكثر في المرآة.