كتاب "الفكر في الصين اليوم".(أرشيف)
كتاب "الفكر في الصين اليوم".(أرشيف)
الخميس 8 أغسطس 2019 / 19:57

تفكيك أسطورة الآخرية وتجاوزها في الصين

الجميل هو انتباه بعض الدول الخليجيّة إلى تدريس اللغة الصينية في المدارس الحكوميّة وإلى إتاحتها في المرحلة الجامعيّة

خلال القرون الثلاثة الأخيرة التي شَهِدَتْ تكوّن الحداثة الغربيّة وسيطرتها، تكوّنت عن الصين وترسّخت صورة صين صاحبة كتابة رمزية، خاضعة لموروث استبداديّ، معزولة عن سائر بقاع العالم طوال قرون، وهو مايفسر جمودها الفلسفيّ والسياسيّ والعلميّ الذي جاء الغرب في الوقت المناسب لإيقاظها منه.

وفي المقابل ترسّخ في فكر النخب الصينيّة شعور متعاظم بمديح الذات القومية الصينيّة. وهو مايشكّل نوعًا من الرد بالكتابة المضادة على اختزالات الصين النمطية وفقًا لرؤية المركزية الأوروبيّة التي كانت حاكمة ثقافياً على مدى قرون ولاتزال تمارسُ سطوتها التي خفَّ بريقها في عصر مابعد الكولونياليّة وانهيار الحدود والتخوم الثقافية المتوهمة بين المراكز والهوامش"الثقافية".

 بهذه الكلمات صدّرت المفكرة الفرنسيّة من أصول صينيّة وأستاذة كرسي في الكوليج دي فرانس آن شنغ كتابها المهم "الفكر في الصين اليوم".

في سنة 1848 نشر زعيم العقلانية الوضعية إرنست رينان بحثًا بعنوان "في أصل اللغة" أقام فيه تعارضاً بين مقولة "العرق الهندو_أوروبيّ" الذي وصفه بأنَّه"العرق الفلسفيّ" الذي يبدو أنَّ لغاته "خُلِقت للتجريد والماورائيات" والعرق الصينيّ واللغة الصينيّة التي يعطيها الوصف الآتي: "أليست اللغة الصينية، ببنيتها اللاعضوية وغير المكتملة، صورة عن قحط الفكر والقلب الذي يتصف به العرق الصينيّ؟ إنَّها تكفي لتلبية الاحتياجات الحياتية، ولتقنيات الفنون اليدوية، ولأدب خفيف متواضع المزايا، ولفلسفة ليست غالباً سوى عبارة لطيفة لكنها ليست رفيعة أبداً، وإن كانت تنمُّ عن حسّ عمليّ جيّد. تستبعد اللغة الصينيّة كلَّ فلسفة، كلَّ علوم، كلَّ دين، بالمعاني التي نعطيها نحن لهذه الكلمات".

سعت آن شنغ مع مجموعة من الباحثين المشاركين في كتابة"الفكر في الصين اليوم" إلى تفكيك أساطير المركزية الأوروبيّة عن الصين وثقافتها وهي أساطير تأسيسيّة مضلّلة جدًا لاتصفُّ ماضي الصين ولاحاضرها. ولذلك يسعى كتاب "الفكر في الصين اليوم" من خلال مداخل علمية مزدوجة إلى تجاوز هذه "الآخرية"؛ إذ يشتغل الكتاب على علم الحضارة الصينية، والتاريخ الفكري، وتاريخ العلوم، والأنثروبولوجيا، والألسنية وغيرها.

والأطروحة الأساسية التي يصدر عنها هذا الكتاب هي أنَّه ليس هناك فكر صيني أوحد، وأنَّ الصين لم تتوقف عن التفكير بعد العصور القديمة ولا بعد دخول الحداثة الغربيّة إليها. لقد انتظم الكتاب في ثلاثة مباحث كبرى هي العلاقة التي أقامها المثقفون الصينيون القدامى والمعاصرون مع موروثهم الخاصّ من خلال دينامية ذاتية سابقة على كلّ تدخل خارجي من خلال حداثة وانغ فيزهي(1619) إلى التصوّر الصيني للتاريخ ومن كونفوشيوس إلى الروائي جين يونغ والإغراء البراغماتي في الصين المعاصرة إلى لي كزياو بو عودة الأخلاق. والمبحث الثاني يتناول المعارف الصينية من الفلسفة والدين والطب من محن الفلسفة الصينية إلى اختراع الأديان في الصين الحديثة والطب الصينيّ التقليدي في جمهورية الصين الشعبية من "تقليد مخترع" إلى "حداثة بديلة". والمبحث الثالث تصدّى للثميات الأكثر ثباتاً التي تدور حول الكتابة واللغة، إضافة إلى المسألة الحسّاسة الملازمة لها، وهي الهوية الصينية التاريخية الثقافية والقومية. فمن الكتابة الصينية إلى توضيح مسألة إلى هوية اللغة إلى هوية الصين، إلى "الصينوية".

وفي خاتمة الكتاب تناولت كارين شملا موضوع تجاوز الآخرية من خلال التفكير في العلم برياضيات الصين القديمة؛ إذ تقترح إعادة التواصل مع النصوص الرياضية الصينية القديمة في مصادرها وخاصة كتاب "إجراءات الرياضيات" الذي اكتشفه علماء الآثار سنة 1984 في قبر يرجع إلى حوالي سنة 186 قبل الميلاد. لقد فنّدت كارين شملا المقالة التي كتبها مارسيل غرانيه عام 1920 التي بيّن فيها أنَّ لغة الصينيين المكتوبة تشكَّل عائقًا بينهم وبين الحداثة العلمية. وتستنج شاملا أنَّ دراسات تأويلية متأنية في المصادر الصينية القديمة بإمكانها أن تفيدنا في سياق تطوّر الرياضيات الحديثة والمعاصرة.

تمثل الصين اليوم واحدة من أبرز القوى العالميّة الناهضة والصاعدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً، والجميل هو انتباه بعض الدول الخليجيّة إلى تدريس اللغة الصينية في المدارس الحكوميّة وإلى إتاحتها في المرحلة الجامعيّة. وأشيد في هذا المجال بجهود كلَّ من دولة الإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعودية ومملكة البحرين، وهي جهود رائعة وذكية من القيادات السياسية في هذه الدول الثلاث في الانتباه إلى قوة الصين الصاعدة عالميًا. ولاشكَّ أنَّ التعرف عن قرب إلى الفكر الصينيّ الحديث والمعاصر من خلال إيجاد تخصص جامعيّ هو الدراسات الصينيّة في الجامعات الخليجية بإمكانه أن يوفر لدولنا الخليجيّة قاعدة من التواصل والفهم العميق للصين بكلَّ ماتحتويه سياسة واقتصاد وثقافة وهوية وطنية .

 كتاب "الفكر في الصين اليوم" من ترجمة الدكتور محمد حمود أستاذ الأدب الحديث والأدب المقارن في الجامعة اللبنانيّة، ومن إصدارات سلسة مشروع نقل المعارف لهيئة البحرين للثقافة والآثار.