الشابة الفلسطينية إسراء غريب.(أرشيف)
الشابة الفلسطينية إسراء غريب.(أرشيف)
الخميس 5 سبتمبر 2019 / 21:30

حكومة شتية... استعادة الفرص الضائعة

قضية الفتاة "إسراء غريب" فتحت ملفات كثيرة في مؤسسة القضاء والأمن والصحة ومنظومة قوانين الحماية والتعليم

في العام 1994 بددت منظمة التحرير الفلسطينية فرصة الشروع في بناء أسس عصرية لمجتمع مدني نواته المواطنة، لم تستفد من شروط تكاد تكون مثالية لوضع هذه الأسس، كان ذلك عندما تأسست السلطة الوطنية كإطار تنفيذي للمنظمة تتولى مهمة تسيير الشؤون الخدمية في مناطق سيطرتها التي ينسحب منها الاحتلال.

حتى في سياق اتفاق سيئ مثل "أوسلو" يمكن البحث عن مناطق عمل وتأسيس بنية تحتية والحصول على نتائج. ولكن المنظمة التي وصلت إلى "الاتفاق" منهكة وفي لحظة انهيار "الجبهة الشرقية" وحصار العراق، وتفكك المنظومة الاشتراكية وانهيار الاتحاد السوفييتي، والحصار المالي الذي جفف مواردها، لم تتمكن من استثمار الرافعة السياسية والأرضية الشعبية التي وفرتها لها "الانتفاضة الكبرى"، والتي جاءت خارج الحسابات تماماً، مثل ضربة حظ منحت المنظمة سلماً للنجاة من الحريق.

كان القطاف السياسي هو الشاغل الرئيس، السياسة بمجالها النخبوي الضيق المعزول عن الحاضنة الشعبية، وهوما كانت تبرع به حقاً، رغم تلاحق الانهيارات في الإقليم والعالم، من خلال زعامة تاريخية مثلها "ياسر عرفات".

في منعطفات كثيرة كان "ياسر عرفات" كافياً، لم يكن مثالياً تماماً ولكنه كان "كافياً" للعبور والسير في حقول الألغام الكثيرة، والتنقل بقدرة مدهشة بين الميدان وملف المفاوضات والتقاط الصور مع المارة دون أن تسقط من يديه الفكرة التي تقود كل هذا.

هكذا وقفت منظمة التحرير بإرثها السياسي وندوبها الكثيرة على الأرض الفلسطينية مكشوفة للمرة الأولى، كانت لحظة مواجهة بين جناحي المشروع الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج، بين نخبوية الإطار التنظيمي في المنفى، وهذا لا يقلل من نفوذه، وبين حاضنة شعبية عريضة ومدربة يكتنفها الشعور بالإنجاز.

ضعف الخبرة في إدارة الشأن المجتمعي وإدارة الخدمات الحياتية، وعدم وضوح رؤية أو خطة واضحة للعمل، والتخبط والارتجال الذي رافق بناء مؤسسات السلطة، دفعها للالتفاف على المعايير المهنية، وتفادي مواجهة المسؤولية التي وجدت نفسها في مواجهتها دون إعداد مسبق، من خلال الاعتماد، جزئياً، على خبرة "الإدارة المدنية" التي أنشأها الاحتلال الإسرائيلي، وعلى وجوه تتمتع بولاءات عشائرية، وعلى تراتبية تنظيمية غير مؤهلة وتفتقر إلى الاختصاص.

هكذا تم تجاهل، إلا في نطاق محدود، الخبرة التي راكمتها شبكة المنظمات المدنية في المناطق المحتلة، والتي استطاعت أن تطور أداءها خلال ثلاث سنوات من الانتفاضة وعقدين من الاحتلال، وأن تغطي عبر إبداعات مجتمعية وفي ظل ظروف بالغة القسوة وميزانيات ضعيفة، خدماتها التي غطت الحاجات الأساسية لمجتمع مقاوم في التعليم والصحة والإرشاد الزراعي والتراث والثقافة والفنون، معتمدة على طاقة العمل التطوعي ولجان الأحياء التي غطت هذه الحقول.

على مستوى آخر تداعت الأفكار والمبادرات القليلة، التي حاولت اختراق الواقع عبر الأجهزة الناشئة للسلطة الوليدة المرتبكة، محاولة عصرنة المناهج التي قادها البروفسور ابراهيم أبو لغد على سبيل المثال، بعد أن استعادت مؤسسة التربية والتعليم المحافظة الموروثة من الإخوان المسلمين خلال سنوات الستينيات في الأردن، وهذا ما جرى مع المؤسسة القضائية التي اعتمدت القوانين الأردنية دون إجراء أي تعديلات جوهرية عليه.

هذه هي الفجوة التي تواجهها السلطة الآن، والتي تواصل اتساعها بين حاجات المجتمع المدني ومطالبه وطموحاته وبين أداء مؤسساتها المتهالك، الفجوة التي عكست نفسها في أوجه الحياة المختلفة، وعززت عدم الثقة بين الشارع والمؤسسة الرسمية، التعليم والقضاء والاقتصاد على وجه الخصوص، وهو ما يجعل من كل حادث مجتمعي عملية مواجهة وقضية رأي عام، مثل قضية الفتاة "إسراء غريب" التي فتحت ملفات كثيرة في مؤسسة القضاء والأمن والصحة ومنظومة قوانين الحماية والتعليم...، وهذا هو بالضبط التحدي الذي تواجهه حكومة محمد شتية ومدى قدرتها على استعادة تلك الفرصة واستعادة حاضنتها وفتح المسالك المؤدية إلى مجتمعها، الطرق التي أغلقتها سنوات من التجاهل.