الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر. (أرشيف)
الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر. (أرشيف)
الأربعاء 8 يناير 2020 / 20:47

حضور وغياب الأسماء

في رواية "ضجيج الجبل" لكاواباتا، ينسى البطل اسم صديقة ابنه التي تعرَّف عليها قبل أربعة أو خمسة أيام. هنا كاواباتا أمام النسيان

يُعتبر نسيان الأسماء من أكثر أنواع النسيان شيوعاً، وهو يحدث بانتظام، وأحياناً بغير انتظام، ويزيد من غموضه، موقف الذاكرة التي تنفي النسيان دائماً، باختراقات استثنائية، حديدية، لأسماء يصعُب استعادتها، وكأنها تريد إسدال الستار على خلل رئيس في طبيعتها. يتمتع نسيان الأسماء بوجاهة رمزية، وفلسفية، فطلب حضور الاسم على طرف اللسان، هنا والآن، واكتشاف غيابه المُفاجئ، أو ضياعه، يستدعي ترسيمة مارتن هيدغر الشهيرة، بأن الامتداد الواسع للحضور يكشف عن نفسه على نحو حاد، إذا ما أدركنا أن الغياب، والغياب وحده، يرتبط بالحضور على نحو يصل إلى حد الغرابة.
  
الذاكرة تؤكد الحضور، والنسيان يؤكد الغياب. في هذا الصراع تتحول كل الأماكن والأحداث والمواقف والوجوه إلى دعائم ثانوية لاستعادة الاسم، على الرغم من أن الأماكن والأحداث والمواقف والوجوه، هي مادة الدراما الأساسية إلا أن شرط استعادة الاسم، يبدو وكأنه تدمير مباشر للدراما، تدمير للحياة. الاسم أهم من المُسمى. تستدعي ذاكرة بروست في رواية "البحث عن الزمن الضائع"، ما له قيمة درامية، الأماكن والأحداث والمواقف والوجوه، وكأنّ بروست لم تكن معركته، مثل تاركوفيسكي في فيلم "نوستالجيا"، مع النسيان، بل مع استعادة الزمن، استعادة زمن الأماكن والأحداث والمواقف والوجوه.

نسيان الاسم أكثر تجريداً، واستعادته لا تخفف من خيبة ضياعه. في رواية "ضجيج الجبل" لكاواباتا، ينسى البطل اسم صديقة ابنه التي تعرَّف عليها قبل أربعة أو خمسة أيام. هنا كاواباتا أمام النسيان. قد يكون هذا النسيان المجرد، هو بداية طريق إلى الزهايمر، لكنه ما زال فنياً، يتعلق بالاسم، لكن كلما حسم معركته مع الذاكرة، كلما فقد ما هو فني، ولهذا تكون الأعمال التي تُعالج مرض الزهايمر متواضعة فنياً.

مجموعة من الأفكار تستغرق الزمن الكسول بعد اليقظة. ولأنها أفكار لا تتطلب نتائج عملية، آنية، مُباشرة، فهي تؤنس تحضير القهوة، وتغامر بإهدار سمعتها، في التسكع الطويل دون هدف واضح، وبهذا تُهدر سمعتها في كونها أفكار. في الغالب، الفكرة نشاط عقلي يحظى بالاحترام، والجدية، قلتُ لنفسي معزياً. كان الشعور بفنجان القهوة الأول هارباً، وهي علامة لطالما أسعدتني، لأنها تعني تحضير فنجان قهوة ثان، وتعني أيضاً أن مجموعة الأفكار تعمل بانسجام، ونشاط، لدرجة عدم الشعور بفنجان القهوة الأول. الزمن على متن الرياح الناعمة.

الانسجام ضروري لمجموعة من الأفكار تأتي دفعة واحدة بعدسة كاميرا في مشهد عريض. الممثل هنري فوندا في دور جاك بيوريجارد، فيلم "اسمي لا أحد"، عليه أن يواجه مجموعة Wild Bunch، حفنة بريّة، بلازمة موسيقية على ذوق سيرجيو ليوني. مخرج الفيلم من الباطن. قبضة من الأفكار، مجموعة من الأشرار بكامل عددهم 150. مجموعة الأفكار بعد فنجان القهوة الثاني. كانت مؤنسة، فأصبحت موحشة. المواجهة بالسلاح، لا أحد يسحب السلاح أسرع من جاك بيوريجارد، لكن جاك بيوريجارد يريد التقاعد. يكتب في يومياته على ظهر مركب: لا تأنس لفكرة، ناهيك عن مجموعة من الأفكار.
لا يسع لودفيج فيتغنشتاين إزاء الأشياء، في كتابه "رسالة منطقية فلسفية"، إلا أن يسمّيها، والاسم مُتمكن في غموضه عن الفعل، عند النحاة، فالاسم غير مرتبط بزمن، ولهذا يكون إطلاقه، مع الإشارة إليه، بمثابة قيد للأوابد، كيّ بالنار في جلد الموجودات، ريحة شياط تزكم الأنوف، ختم وجود. بتعبير فيتجنشتاين، لا يسعه الحديث عن الأسماء دون تقرير وجودها، وتقرير الوجود هو قضية، والقضية هي مسايرة الظل لأصله. على سبيل المثال. رواية كافكا التي فضّل مصطفى ماهر تسميتها في ترجمته ب "القضية"، وهي في ترجمة أخرى "المحاكمة". القضية هي ظل ك، وكافكا يتعجّل لبطله المحاكمة. القضية لا توفّر خلاص ك، وهي أيضاً لا تحكم على ك، لا تزرع الأمل في طريقه، لكنها تستمتع باستعدادات ك للمحاكمة.

البحث بعد منتصف الليل، فجأةً، عن كتابٍ ضمن مكتبة، محفوف بمخاطر الضياع واليأس. ضياع مُضَاعَف، في الظاهر ضياع الكتاب، وفي العمق ضياع النفس. تيجي تصيده يصيدك. كتاب بين ألفين على وجه التقريب. كان الكتاب ضمن مجموعة المائة التي لا تبتعد كثيراً عن رفٍ بجوار السرير، وأقدامه. مثل أب لا يأمن على ابنه في أحراش الغابة. هناك عند علو المكتبة، والتحامها بالسقف. البحث في مجموعة المائة، يُضعف الرغبة في الكتاب الضائع. متاهات صغيرة.

قراءات خاطفة تستدعي مجموعة المائة دفعةً واحدة. مُواجَهَة مع تهافت البحث. لا مفر من أحراش الغابة. ذهاب تتحطم على صخرته الرغبة. عار الذوق القديم، لا غفران لتدرج الذوق، إمّا أن يكون مكتملاً منذ ولادته، أو يحكمه النقص من البداية إلى النهاية. إمّا أو، حدية قاطعة، بنصل كيركجارد. صرخات احتجاج يافعة. مجموعات من مئات أخرى، أُحيلتْ للتقاعد. مثل شخصيات دوستويفسكي المُحالة للتقاعد. بعد يومين يظهر الكتاب الضائع قرب مجموعة المائة مُهملاً، فاقداً البريق.

اكتشاف التكرار، ومعاينته، ليس دون ألم، وحساب المسافة بينه، وبين طبعاته السابقة، فيبدو في حال مَنْ لا يعرف تاريخه، ومَنْ لا يملك ذاكرته، وبحسابه اللا زمني، فهو يحضر للمرة الأولى.

في الغالب تكون أحلامي مضطربة، ومشوشة، وغير قابلة للحكي بعد اليقظة، بل تكون دائماً لحظة اليقظة، لحظة ارتياح وأمن، للخلاص من مادة الحلم، ولنمطية تلك الأحلام، وتكراراها، تراكمتْ لها صورة عامة. فهي تنطلق من تيه ما، وأنا في وسطه، ويجب عليَّ الوصول إلى مكان، ربما أعرفه، لكنني لا أعرف طريق الوصول إليه. التيه لا يكون في الحلم ملحاً، أو كارثياً، ولا يحمل معان مجازية، مجرد تيه يحتاج إلى وصفٍ من أحد المارة، وهم قليلون في الأحلام، وإذا وُجدوا، فوصفهم رغم سهولته، عصي على فهمي. الأيادي تُشير إلى شارع، أو إلى ساحة، ستظهر بعد خطوات معدودة، وما عليَّ سوى تجاوز الشارع، أو اختراق الساحة، لأجد نفسي قريباً من المكان المنشود، لكن الخطوات المعدودة تطول وتتعرج.

يصعب عليّ القول بأنني لم ألتزم بالوصف، كما يصعب القول بأن الوصف لم يكن دقيقاً، لكن ربما تكون دقة الواصف في وصفه، ترجع إلى استحالة رؤيته المستقبلية للتائه مرةً أخرى، أو على الأقل رؤيته في زمن لا يتجاوز لوم التائه الذي ربما أدرك بعد وقت، عدم دقة الوصف، لكن حتى هذا الإدراك يتلاشى سريعاً في زمن الحلم، وتبقى بعد اليقظة، الذكرى البصرية، الخرساء، الثقيلة، لإشارات الواصف بيديه، الإشارات الواثقة العارفة التي تنقل المعنى بقوة، لفاقدي النطق والسمع.