خارطة الدول العربية (أرشيف)
خارطة الدول العربية (أرشيف)
الثلاثاء 18 فبراير 2020 / 20:51

ما بعد الدولة القُطرية

تنفض نسخ ما يعرف بالربيع العربي وإفرازات موجاته المتناسلة غباراً كثيفاً تراكم على محاور نقاش ومفاهيم ومصطلحات ورؤى أحدثت جدلاً واصطفافات في بعض مراحل دولة ما بعد الاستقلال.

قطعت دولة ما بعد الكولونيالية التي عرفت بدولة التجزئة شوطاً في التخلص من أحلام الوحدة وتكريس الهويات القطرية والابتعاد عن الوصفات السحرية لكنها أبقت على أزمات بنيوية

إن أزمة الدولة القطرية واحدة من أهم القضايا التي أثارت اهتمامات النخب خلال عقد الثمانينات وقيل فيها وعنها الكثير في مشرق ومغرب الوطن العربي وساهم مفكرون ومثقفون في إغنائها وتصويب مسارات التفكير فيها على أمل الوصول إلى نتائج منطقية والعثور على إجابات لأسئلة يواجهها صناع القرار وقوى المعارضة وفي بعض الأحيان لم يخل الأمر من محاولات التقليل من شأن الخوض فيها.

ركزت الفكرة الرئيسية في الجدل الذي تصدى له القوميون بحماسة وشارك الماركسيون في بعض سجالاته على الأزمات البنيوية التي تواجهها الدول العربية، وكان هناك انطباع بأن الاختلافات بين أزمات دولة عربية وأخرى تقتصر على التفاصيل وأن نهاية التجزئة العصا السحرية التي تتلاشى عندها الأزمات، مما حد من مراعاة الخصوصيات وساهم في توسيع تباينات وجهات النظر حول سبل الوصول إلى الحل المفترض.

تستند معظم القوى التي تتصدر الاحتجاجات مع بدايات العقد الفائت إلى الأزمات التي تندرج تحت العنوان الذي اعتادت نخب الثمانينات الخوض فيه مع الاستخفاف بالعصا السحرية التي تحولت مع مرور الوقت إلى متاهة، مما يعني سقوط الأداة التقليدية للحل ومحو الخطوط العريضة لواحد من الأوهام التي استنزفت قوى فاعلة في الشارع السياسي العربي.

وبذلك لا يخفي الالتقاء عند جوهر الأزمات المزمنة اختلافات فرضتها عوامل ذاتية وموضوعية يمكن إدراجها في إطار فقدان السياق العام الذي حددته رؤى الثمانينات وتكريس الهوية القطرية وانكفاء التيارات القومية والماركسية أمام الإسلام السياسي.

توسيع زاوية الرؤية يعطي مقاربات مأزق الدولة العربية وعجزها عن التجديد والإصلاح بعداً آخر، حيث يقابل الحديث عن الخصوصيات وتكريس الهويات القطرية بروز العولمة وإفرازاتها التي تطرح تحدياتها على دول ونظم سياسية أكثر رسوخاً وحيوية من كيانات ونظم المنطقة العربية، مما يعني أن هناك فضاء أممياً لأزمة الدولة العربية ما زال غائباً عن المطالبين باصلاحها.

قطعت دولة ما بعد الكولونيالية التي عرفت بدولة التجزئة شوطاً في التخلص من أحلام الوحدة وتكريس الهويات القطرية والابتعاد عن الوصفات السحرية لكنها أبقت على أزمات بنيوية مستعصية تتشابه في جوهرها وتطرح أسئلة أكثر استعصاء في زمن العولمة مما يرجح انعكاس الأزمات على جغرافيا سياسية لم تعد قادرة على حمل الدولة العربية المأزومة بصيغتها الراهنة ويهيئ لعلاقات بينية مختلفة تساهم في إعادة انتاج آليات صراع الحضارات ولا تلغيه.