شارع مقفر في زمن كورونا.(أرشيف)
شارع مقفر في زمن كورونا.(أرشيف)
الأحد 22 مارس 2020 / 18:07

أسئلة المدينة في زمن كورونا

هل سينتهي ما يمكن تسميته "رهاب" الفضاء العام، المتفشي الآن، بسرعة ويعود الناس إلى سابق عهدهم، أم أن تجربة العيش في "زمن الكورونا"، وما رسخ منها في الذاكرتين الفردية والجمعية، والمخيال العام، ستؤثر على السلوك العام

تتصدّر أخبار كورونا المُستجد نشرات الأخبار على مدار الساعة، وكذلك هموم الحكومات والأفراد والمجتمعات، في كل مكان. وما يعنينا، في مقالة اليوم، يتمثل في محاولة التفكير في جوانب فردية وجمعية لا تحتل مكانة يُعتد بها في نشرات الأخبار، والبيانات الرسمية، وإن كانت تجد في منصّات التواصل الاجتماعي ما يمكنها من الحضور، كانطباعات وتأملات ذاتية، وكلها تندرج في باب العلاقة بالأنا والآخرين، وفكرة المدينة، كما عبّرت عنها مختلف مدارس العلوم الإنسانية.

ولنبدأ بفكرة المدينة. فالمدينة في علوم الاجتماع تمتاز بثلاث صفات أساسية بالمعنى السوسيولوجي هي: المجهولية، والفضاء العام، والاحتكاك اليومي بالآخرين. المجهولية تعني أن الفضاء العام، الذي يتمثل في الشارع، والميدان، والمتحف، ودار العبادة، ودار السينما، ووسائط النقل، وأماكن التسوّق، يمثل نقطة لقاء بين أشخاص لا تربطهم علاقات اجتماعية، ولا يعرفون بعضهم بصفة شخصية. وفي العواصم والمدى الكبرى لا يندر حتى أن يكون السكّان غير معروفين بالقدر الكافي لجيرانهم في المجمّعات السكنية.

للمجهولية، في هذه الحالة دلالة أساسية بقدر ما تمثل مصدراً للفردانية بتحريرها للفرد من رقابة الآخرين. ويتضح الفرق، في هذا الصدد، بمقارنة حياة الأفراد في المدن، بحياة الأفراد في القرى، والبلدات الصغيرة، الذين غالباً ما يعرفون بعضهم على مدار أجيال، ويتقيّدون بمنظومات سلوكية راسخة وواضحة المعالم.

لذا، ثمة صلة وثيقة بين المجهولية والفضاء العام، فكلاهما غير قابل للتحقيق دون حضور الآخر. والمفارقة، في "زمن الكورونا" أن الفضاء العام نفسه أصبح مصدراً لخطر داهم وغير مرئي في آن. فالعدوى قد تنتقل من إنسان إلى آخر في كل ما يكوّن الفضاء العام نفسه، ويشهد تجمّعات طوعية، لأشخاص مجهولين لبعضهم البعض. وحقيقة الخطر هذه لا تقتصر على إدراك الأفراد لضرورات السلامة الشخصية، بل وتتجلى في صورة قوانين، وإجراءات رسمية، أيضاً، وصلت في بعض الدول والمدن إلى حد فرض حظر التجوّل، ومنع المواطنين من الخروج بقوّة القانون، وتحت طائلة العقاب.

وفي سياق كهذا تفقد فكرة المدينة، بصورة مؤقتة، دلالة الاحتكاك، أو تقليص المسافة، بين الأفراد في المكان العام. ففي الأيام الأولى لتفشي الوباء حظرت بعض الحكومات تجمّع أكثر من بضع مئات من الأشخاص في مكان واحد. وفي الوقت الحاضر تقلّص العدد إلى حد كبير، ناهيك عن إغلاق معالم ثابتة في المدن كدور السينما، والمسارح، والملاعب، والمطاعم، والمتاحف، ودور العبادة، وحتى أماكن التسوّق العامة إما أُغلقت، أو خضعت لقيود صارمة.
من المؤكّد أن كل ما تقدّم سيجد تجلياته في الأدب والفن، وفي علوم المجتمع والإنسان، في يوم قادم، بعد اكتشاف دواء ناجع للكورونا، وعودة العلاقة العضوية بين المجهولية، والفضاء العام، وتقليص المسافة بين الأفراد. ولكن تبقى حقيقة أن الفردانية، والمجهولية، قد تعرّضتا للاختزال في "زمن الكورونا" بطريقة غير مسبوقة، ومؤلمة تماماً. وهذا لا يقتصر على مكان بعينه، بل يشمل العالم من أقصاه إلى أدناه.

وثمة ما يبرر القول، هنا، أن مجتمعات كثيرة عاشت، وتعيش، ظروفاً استثنائية في أزمنة الحرب ضد عدو خارجي، أو في حروب أهلية، وأن الفضاء العام يفقد الكثير من وظائفه ودلالاته الاجتماعية، وكذلك ما يتعلّق بالمجهولية، وتقليص المسافة بين حركة انسياب الأجساد والناس في الفضاء العام.

ومع ذلك، يتجلى تقليص المسافة، بصفة عامة، بين الأفراد كمصدر للطمأنينة، والتكافل والتضامن، في زمن الحرب. أما في "زمن الكورونا" فإن إمكانية العدوى، وانتقال الفايروس اللامرئي من شخص لا تبدو عليه أعرض المرض، أشياء تحض لا على الحفاظ على المسافة مع الآخرين، وحسب، بل وعلى زيادتها، أيضاً.

وإذا كان ثمة من أسئلة، في هذا الشأن، فلعل أبرزها ما يتصل بالعلاقات الاجتماعية، وأسئلة المدينة. فهل سينتهي ما يمكن تسميته "رهاب" الفضاء العام، المتفشي الآن، بسرعة ويعود الناس إلى سابق عهدهم، أم أن تجربة العيش في "زمن الكورونا"، وما رسخ منها في الذاكرتين الفردية والجمعية، والمخيال العام، ستؤثر على السلوك العام، سواء تعلّق الأمر بقواعد السلامة العامة، أو إعادة النظر في دلالات المجهولية، والعلاقة بالفضاء العام؟

ولا يبدو من السابق لأوانه القول إن الكثير سيعتمد على سرعة النجاح في مكافحة هذا الوباء، وعلى حجم ما نجم في فترة المكافحة من خسائر مادية وبشرية، وعلى طبيعة الدروس الاجتماعية والثقافية والسياسية التي سيتمكن الناس من إدراكها.