عن بعد

عبقرية الإنسان لا تتوقف. هو ضعيف أمام المرض، مرتعب أمام الجنود الكونية غير المرئية التي لا يعلمها إلا خالقها. لكن الخالق القادر الحكيم خلق وقدر وحكم. استخلف الإنسان وهو عليم بأنه لهذه المهمة أهل. ففي ضوء هذه المحنة الجديدة على هذا الجيل من البشرية، لم تتوقف الحياة، وهنا عبقرية الإنسان.

دعيت يوم أمس لحضور قراءة في كتاب أهديته لبروفسور هندي زار الإمارات في معرض الكتاب، ويبدو أن اتساع الوقت المتاح للخلوة، مكنه من قراءته أخيراً، فقرأه، ودعاني لحضور حلقة نقاشية فيه عبر أحد التطبيقات التواصلية. فكنت غريب الوجه واليد واللسان بين رهط من الهنود. في الحقيقة كانوا أكثر من الرهط بكثير. لكن غربة اللسان زالت حين صارت الجلسة باللسان العربي. فعلمت أن البعد أحياناً أجدى من القرب.

ودعيت للتحكيم في مسابقة لحفظ الشعر وإلقائه، وهي مهمة لطالما قمت بها، لكنها كانت المرة الأكثر بركة، فلم يضع من وقتي ساعات استنزفها في الطرق المزدحمة، ولم أهدر وقت المسابقة في تشبيك اجتماعي وتعارف ومجاملات تزيد من الأرقام المسجلة في الهاتف فحسب. بل كان وقتي خالصاً كله للتحكيم، كل ما عليك هو الاتصال بالبرنامج، والاستماع، وسؤال وجواب، ثم المتسابق التالي من فضلك.

سبق هذين العملين اتصال تلقيته من إدارة الكلية التي أدرِّس فيها، طالبين أن أدرس ما تبقى من متطلبات المادة عن بعد. لم أتردد البتة، وكيف لي أن أفعل وقد شاهدت من يفعل ذلك على أرقى المستويات وأعلاها، فمجلس الوزراء الموقر يعقد اجتماعاته الأسبوعية دون توقف، وقمة العشرين جمعت رؤساء العالم على طاولة افتراضية.

كانت تلك ثلاث تجارب لي في الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية عن بعد،
كنت في الأولى في الويبينار WEBINAR وهو مختصر لمصطلح الندوة القائمة على الويب أو web-based seminar ، ويكون إما عرضاً، أو محاضرة، أو ورشة عمل، أو ندوة، تقدم عبر شبكة الإنترنت.

وكنت في الثانية في اجتماع عبر الإنترنت web-meeting وهو أمر صار الموظفون يمارسونه يومياً، وسرعان ما أتقنوه، فلم تتوقف الأعمال. وكنت في الثالثة أدير فصلاً من الفصول الافتراضية virtual classes وهو أمر مارسه أكثر من عشرين ألف مدرس في الإمارات طوال الشهر الماضي، واستفاد منه أكثر من نصف مليون متعلم في الإمارات.
وهنا تظهر عبقرية الإنسان.