الشاعر المصري الراحل عبدالرحمن الأبنودي (أرشيف)
الشاعر المصري الراحل عبدالرحمن الأبنودي (أرشيف)
الثلاثاء 21 أبريل 2020 / 19:25

حين منحني الأبنودي منديله لأبكي

هذا شهر أبريل الذي وصفه الشاعر الأمريكي البريطاني بـ "أقسى الشهور الذي يُنبِتُ الليلكَ من الأرضِ الميتة"، في قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب، أو الأرض الجدب، أو الأرض القفر، أو الأرض القاحلة، أو أرضُ اليباب" The Waste Land.

تُرى ماذا كان يكتبُ لنا الأبنودي لو عاصر جائحة كورونا؟! كلماتُه تجعلك ترى الجميلَ في القبيح، وترى النعمة في النقمة. ذلك الساحر الذي طوّع الحروفَ والنغمَ كما مايسترو عبقريّ

وبالنسبة لنا في مصر هو بالفعل شهر جميل، وقاسٍ في آن. في هذا الشهر، منحتنا السماءُ شاعراً مصرياً عزّ نظيره. وفي هذا الشهر ذاته، حرمنا منه الموت! لكن بين الميلاد والرحيل ترك لنا الرجل الكريم زهرتين جميلتين، آية ونور، وزوجةً جميلة، الإعلامية نهال كمال، وجبلاً ضخماً من موسيقى الشعر، وكنوز المشاعر، والسمو، والوطنية، خلال 77 عاماً ثرياً عاشها بيننا، ورحل خالدَ الذّكر، عصياً على النسيان. 

وُلد في 11 أبريل (نيسان) 1938، ورحل عن عالمنا في مثل هذا اليوم تحديداً الثلاثاء 21 أبريل (نيسان) 2015، إنه الشاعرُ العظيم  عبد الرحمن الأبنودي، أحد أكبر وأجمل وأثرى شعراء هذا الكون.
ابحثْ في ذاكرتك عن أكثر ما تحبّ من أغان لكل من عبد الحليم حافظ، وفايزة أحمد، ومحمد قنديل، ومحمد منير، وصباح، ونجاة الصغيرة، ومحمد رشدي، وماجدة الرومي، ووردة، وشادية، وغيرهم، وستُفاجأ بأنها من كلمات هذا الشاعر الاستثنائي الذي يقطر الشعر من جبينه، وتخرج مع أنفاسه قصائد وأغاني ونغما. ليس أجمل من صوته الجنوبي الدافئ وهو يُرنِّم قصائده بالعامية المصرية الصعيدية ليُخبرنا عن والدته "الحاجة فاطمة قنديل، فاطنة جنديل، والعمة آمنة، يامنة، وجوابات حراجي القط العامل في السد العالي بأسوان، إلى زوجته فاطنة التي يعشقها وتعشقه.

كانت أمّه تقول له: "يا واد يا عبحمن فين الأغاني اللي انت سارقها مني وتروح تقول للناس في مصر إنك أنت اللي كاتبها؟". يعترفُ الشاعرُ الكبير أن أغنية "بيبا" التي غنّتها الجميلة شيريهان في فيلم "عرق البلح"، كانت من إبداعات والدته الحاجة فاطمة: "بيبا عمي حمادة بيبا/ بيبا جابلي طبق بيبا/ بيبا مليان نبق بيبا/ بيبا قالي كولي بيبا/ بيبا قلت له ماكولشي/ بيبا وديه لأمك بيبا/ بيبا وأمي بعيد بيبا/ بيبا بحر الصعيد/ بيبا والصعيد مات/ بيبا خلّف بنات….)

تُرى ماذا كان يكتب لنا الأبنودي لو عاصر جائحة كورونا؟ كلماتُه تجعلك ترى الجميلَ في القبيح، وترى النعمة في النقمة. ذلك الساحر الذي طوع الحروفَ والنغمَ كما مايسترو عبقري يُطوّع بعصاه الموسيقى ويجعل منها فراشاتٍ تحوم فوق هامتك تنثرُ العبير والشذى.

قبل سنوات بعيدة، كان الأبنودي ضيفاً على منصّة إحدى الأمسيات الشعرية. وكنتُ أجلس على مقعد مواجه له. وبدأ يُرتل بصوته الجنوبي العميق قصيدة "يامْنَة"! وما أدراك ما تلك القصيدة الموجعة وما تحمل من وخزات شوك جارحة تخزُ القلبَ فلا تتركه إلا وقد خف وشف وصار قطعةً من غيمة عالقة في السماء.

عند مقطع معين بدأت دموعي تنساب حارقة على وجنتي، حين راح يحكي عن ردة فعل العمة العجوز لما جلب لها قطعة قماش لتخيطها ثوباً جديداً للعيد، ثم حين زارها في العيد التالي ولم يجدها. 

قالت له العمّة: "ولسّه يامْنَة هاتعيش وهاتلبس/ لمّا جايب لي قطيفة وكستور؟/ .../ طب ده أنا ليّا ستّ سنين مزروعة في ظهر الباب/ لم طلّوا عليا أحبّة ولا أغراب/ خليهم/ ينفعوا/ أعملهم أكفان!/ كرمش وشّي؟/ فاكر يامنة وفاكر الوش؟/إوعى تصدقها الدنيا/ غش في غش!/ مش كنت جميلة يا واد؟/ مش كنت وكنت/ وجَدَعَة تخاف مني الرجال؟/ لكن فين شفتوني؟!/ كنتوا عيال!/ هاتيجي العيد الجاي؟/ واذا جيت/ هاتجيني حداي؟/ وهاتشرب مع يامنة الشاي؟/ هاجي يا عمة وجيت/ لا لقيت يامنة ... ولا البيت!" 

وجعتني الكلمات. ووجعني إلقاءُ الأبنودي الحارق السارق الذي لا يشبه إلا نفسَه. ولم أنتبه إلا ووجهي غارق في دمع، لم أستطع كبحه. فما كان من الأستاذ إلا أن مد يده إلى علبة المناديل الورقية، واستلّ منديلا. ثم راح يمسح دموعي بيديه الطيبتين قائلاً جملته الخالدة في تاريخي: "والله يا عبدُ الرُّحمن وبكّيت فاطنة الحلوة". وهو حريص على نطق فاطمة، بالنون لا بالميم، كما ينطقها أهلُ بلدة أبنود الجنوبية، ابنة قنا، ابنة صعيد مصر العظيم. وحين انتبهت لدموعي المنسابة ويده التي تمسح دمعي، ويده الأخرى تربت على كتفي لأكف عن البكاء، خجلت من نفسي، وهمستُ له: "أعملك ايه يا خال؟! مانت بتكتب كلام يكسر صندوق القلب..." وتلك العبارة المدهشة استعرتُها من أحد جوابات فاطمة أحمد عبد الغفار لزوجها الأسطى حراجي القط، العامل بالسد العالي بأسوان، من إبداع عظيم الأغنية المصرية عبد الرحمن الأبنودي، الذي حلت في أبريل ذكرى ميلاده العزيز، وتحلّ اليومَ ذكرى رحيله الموجع عن ديارنا إلى حيث عالم الخلود الأبدي، حيث يصدح ويغنّي ولا ينسانا، نحن عشاقَه ومحبيه.

أقول لصديقتي الجميلة نهال كمال: "طوبى لكِ رفيقة سنواتٍ طوال من عمره، وأماً لابنتيه الجميلتين" وأقولُ له: "أيها الأجمل الأبهى في حياتك، والأكثر جمالاً وحياةً في رحيلك، يا مخبي في عينيك السحراوي تملي حاجات، ارقد في سلام في فردوس الله، ولا تنسنا، لأننا لن ننساك!"