السبت 25 أبريل 2020 / 20:26

جاره طبيب يحارب كورونا

حين لمح "سعيد زيدان" المحاسب بوزارة العدل جاره الطبيب يعود مرهقًا في آخر الليل، يوقف سيارته على جانب الشارع، ويمشي وئيدًا في اتجاه مدخل البناية، تمنى لو حضنه بقوة، ليعبر له عن عظيم امتنانه، لكن لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك، فالتعليمات واضحة: لا مصافحة، ولا أحضان

حين لمح "سعيد زيدان" المحاسب بوزارة العدل جاره الطبيب يعود مرهقًا في آخر الليل، يوقف سيارته على جانب الشارع، ويمشي وئيدًا في اتجاه مدخل البناية، تمنى لو حضنه بقوة، ليعبر له عن عظيم امتنانه، لكن لم يكن بوسعه أن يفعل ذلك، فالتعليمات واضحة: لا مصافحة، ولا أحضان، ولا قبلات، بل لا اقتراب بين حرارة جسدين في زمن التباعد.

التصق بالسياج الحديدي لشرفته، وراح يصفق له، وانهمر التصفيق من النوافذ والشرفات كافة، ووصل دويها إلى أسماع الجالسين في صالات البيوت وغرفها في زاوية من شارع "الفلكي" وفي بنايات أبعد في آخر شارع "سعد زغلول" فهرعوا مادين أعناقهم ليروا ما يجري.

كان الطبيب قد توقف عند المدخل الرخامي، وتراجع خطوات قليلة حتى يرى من يحييه، ثم رفع يده ولوح له، وأعادها إلى صدره وربت عليه مرتين. بان معطفه الأبيض الناصع في نور مصباح الشارع، وذلك المتدفق من مدخل البناية، فعرف البعيدون أنه واحد من قادة ما أطلق عليه الناس في هذه الأيام "الجيش الأبيض" فلوحوا له، وزاد التصفيق، ووجدتها إحدى النسوة فرصة لتجربة قدرتها على إطلاق الزغاريد، فجلجلت بها، وتبعها ضحك متواصل، في محاولة لصنع أي بهجة في هذه الأيام الكئيبة.

يسكن هذا الطبيب الذي يتقدم نحو العقد السادس من العمر في الشقة المقابلة لـ "سعيد زيدان" منذ سنوات، لم يتحدث معه من قبل إلا نادرا، فالرجل كان وقته موزع بين مستشفى "المنيرة العام" التي يعمل فيها طبيبًا للأمراض الباطنة وعيادته الخاصة التي أقامها في حي "السيدة زينب" بالقاهرة، وخصص فيها ساعتين من كل يوم عمل لفحص الفقراء.

بدا "سعيد زيدان" في هذه اللحظة خجلاً من نفسه، فكيف لم يحرص طوال هذه السنين على التقرب من الرجل؟ كان مستغنيًا عنه بأطباء التأمين الصحي، وربما لو كان متخصصًا في المخ والأعصاب للجأ إليه من أجل ابنه، إن لم يكن من أجل مواصلة المتابعة ومحاولة العلاج فعلى الأقل لاستشارة عابرة، أو شيء ما طارئ مما يحدث له في آخر الليل، مثل التشجنات، وصعوبة البلع، والتوحد مع الفراغ.

اليوم يرى أن هذا الطبيب الذي يعود إلى بيته مجهدًا في المساء بعد يوم من العمل الشاق في مستشفى "حميات العباسية" أقرب إليه من أي أحد، بمن فيهم أصدقاؤه الذين باعد الوباء بينه وبينهم، فلم يعد يرى وجوههم وإن كان يسمع صوتهم بين حين وآخر، ويقرأ حروفهم على صفحاتهم على فيس بوك، ورسائلهم على "الماسينجر" و"الواتس آب" التي تتقلب بين سخرية من الوباء، ومعلومات عنه، وغضب مما يجري، وخوف مما سيأتي.

يا للعجب، فجاره الطبيب هذا له صفحة على "فيسبوك" يراها أحيانًا وهو يمر بلا اعتناء على مختلف المشتبكين معه في الصداقة والمتابعة وسلسلة التتابع التي لا تكاد تنتهي. لم يفكر يومًا في إرسال طلب صداقة، أو يصبر على قراءة بعض ما يكتبه من معلومات طبية مهمة. نعم مهمة! فقد كان يلمح سريعًا أنها كانت مصحوبة برسومات وأرقام وجداول وفيديوهات وصور ورسوم، وسطورها مكتوبة بعناية، ورغم هذا كانت المشاركة والتحبيذ عليها قليلة، فالناس يتسابقون على توافه الأمور، كأنهم يسارعون إلى الخيرات، أو يتبارون على اللحاق بالفردوس الأعلي.

اليوم يمر هنا في هذا الشارع القديم، نصف جسده يراه الزعيم "سعد زغلول" الراقد في سلام تحت ضريحه الرخامي المهجور، والنصف الآخر يراه الذين يقفون في النوافذ والشرفات يحيونه، تصفيقًا وتهليلًا، لكن ما يدور داخله لا يراه أحد.

عائد هو من جهنم، من على خط النار، لكن الواجب يمنعه من أن يبوح بما رآه من عذاب شديد، يتلظى فيه أولئك الذين تنحصر أعمارهم بين الشهيق والزفير، لهذا يكتفي دومًا بكتابة تعليمات ونصائح عامة من واقع ما يراه في دقائق يلتقطها من بين ساعات كدحه بين مرضى يرجون من الله أن يكون شفاؤهم على يديه. باتت التعليمات أشد قسوة مع الحرب الطويلة ضد الوباء.

صارت هناك فرصة الآن أمام "سعيد" لقراءتها بعناية. فأصبح بوسعه أن يكتشف للمرة الأولى أن جاره رجل عظيم. كيف لم يفكر في هذا من قبل، والرجل، رغم غزارة علمه الذي يتضح جليًّا من مطالعة ما كتبه قبل أن يجتاح الوباء عالمنا، يستحق التفات محاسب مثله؟ والتمس لنفسه عذرا فهو يعمل بعد الظهر في شركة قطاع خاص كي يرتب لها كل الأرقام بعناية حتى تعبر عتبة الضرائب دون دفع أو مساءلة، لهذا لا وقت كثيرا لديه ليعرف جيرانه بشكل أعمق، أو يعطي صفحة الطبيب وقتا أطول كي يدرك من يكون هو؟

ربما نظر إلى جاره على أنه واحد من أولئك الجزارين الذي يقطعون لحم المرضى إربًا في سبيل ملء جيوبهم. كان كلما جاء على ذكرهم في غضب أثناء جلسة مقهى "التكية" نبهه "أحمد البلاسي" قائلا:
ـ بينهم ملائكة رحمة، فلا تزيد في حنقك عليهم.

كان يعرف واحدًا من رعيلهم الأول، طبيب أمراض جهاز هضمي، ينصت إلى مريضه خمسين دقيقة كاملة، ويعفي الفقراء من دفع أجر الفحص. راح يعتقد بداية أنه هو الوحيد الذي يفعل هذا من بني مهنته، فصارحه ذات يوم وهو ينظر إليه منتظرًا رده، فلم يتأخر:

ـ كثيرون مثلي، وأفضل مني، لكن صوت التجار أعلى دومًا.
بدا له جاره واحدًا من أولئك الذين يجودون بكثير دون ضجيج. أدرك هذا بعد أن دخل كل مصفق إلى شقته، وأغلق النافذة. كلهم انصرفوا إلى استكمال ما كانوا يفعلونه، بينما جلس هو أمام "اللاب توب"، وفتح "فيسبوك" وذهب مباشرة إلى صفحة الطبيب، وراح يقلبها بأثر رجعي، وهو فاغر فاه، فالرجل كان حريصًا في الرد على كل من يسألونه بإجابات مستفيضة.

كم كلفه هذا من وقت؟ لكنه لم يبد ضجرًا من أي سائل طوال هذه السنين، التي تلقى فيها تعليقات وتساؤلات على ما يكتب. كم بدا صبورًا رحيمًا واسع الأفق وزاهدًا عن كل شيء سوى أن يجلي للناس حقائق حول ما يكابدونه، دون أن يبخل بوقت، أو يضن بمعرفة. كان أحيانًا يعد سائليه بمزيد من البحث والدراسة، ويعود بعد يوم أو اثنين ليجيب على أسئلتهم.

كان "سعيد زيدان" قد قرأ عن أطباء تذرعوا بأشياء عدة كي يهربوا من مواجهة الوباء. بعضهم كان معذورًا، فقد غزا جسده مرض قديم واستقر، ويخشي إن ضربه الجائح الغريب أن يصرعه على الفور. وبعضهم أطال الشكوى من قلة العناية، وقال للذين هاتفوه ليسألوه عن سبب تخلفه عن ميدان المعركة:
ـ لا تتوفر لنا أدنى مستويات الحماية اللازمة.

كل من هؤلاء أغلق باب بيته، وخلع معطفه الأبيض، وعلقه في دولابه ملابسه أو في مشجب يتدلى من شماعة من الأبنوس أو الزان على مقربة من سريره، وكرس كل معرفته لخدمة نفسه وأسرته، وإحصاء ما جناه في السنوات الأخيرة من جيوب الناس بعد أن غالي في أسعار الفحص التي حددها. لم يهزه ما سمعه من بعض الناس عن الهاربين، لأنه كان قد اعتاد على التخلف عن المستشفيات الحكومية، ليوفر وقتا لعيادته الخاصة.

صارح "سعيد" جاره بهذا حين خرج إلى الشرفة ليلقي نظرة على ضريح الزعيم قبل أن يخلد إلى النوم، ورأى ابتسامة خافتة ترف على شفتيه في الضوء الشحيح القادم من عمود إنارة، ومصابيح منخفضة تكاد تلمس الأرض في حديقة الضريح ، ثم أجابه:
ـ نحن بشر.
قال له وهو يراه يبتعد إلى الناحية الأخرى من الشرفة، لتتسع المسافة بينهما:
ـ لكنك لست كذلك.
هز رأسه وقال:
ـ مثلي كثيرون .. الأغلبية في المواجهة، وبعض من تقاعسوا لهم أعذارهم، والبركة في شباب الأطباء.
كان شعره الأبيض يلمع قليلًا، فقال له:
ـ أنت من شيوخ الطب المجاهدين.

رآه وهو يربت براحة يده على موضع قلبه، ويمد بصره نحو الشارع الذي تركه الناس للكلاب طائعين، وانتبه إلى المشرد الذي يفترش الرصيف إلى جانب سور الضريح، ولوح له وهو يظن أنه يقظ، لكن صوت شخير الرجل ارتفع، فخالط نباح الكلاب.

لم يشأ "سعيد زيدان" أن يثقل عليه حين رآه يتثاءب، فقال له بصوت مملوء بالشفقة:
ـ يجب أن تستريح .. كان الله في عونك.
وحين خلا إلى نفسه، لم يجد أمامه سوى ساكن الضريح، الذي بدا وكأنه يسمع ما دار بينه وبين الطبيب، أو هكذا رآه هو كما يحدث دومًا، كلما أناخت عليه الدنيا، فوقف في الشرفة يسأله:
ـ ماذا لو كان من جاءوا بعدك قد أكملوا الطريق؟
ويهز رأسه كل مرة، ويقول، وهو يغالب دمعًا يتحدر من عينيه:
ـ كانت حالي اختلفت كثيرًا.

وكأنه سمعه يقول له:
ـ كفى نواحًا على ما لم يأت، وعليك الآن أن تفعل شيئًا.
ووجد جسده يرتجف، وهو يسأل نفسه:
ـ أي شيء يمكن لضعيف مثلي أن يفعله في هذه الأهوال؟
وهنا برقت في رأسه فكرة، فدخل على الفور، وكتب على صفحته في موقع "تويتر":
"كلنا مع الجيش الأبيض من الأطباء وهيئة التمريض والمساعدين وعاملو النظافة بالمستشفيات، نطالب بزيادة رواتبهم ومعاشاتهم، وأن يعامل الذي يموت منهم في ميدان الحرب ضد كورونا معاملة شهيد الجيش والشرطة في المعركة ضد الإرهاب".