المؤرخ الشهير وعالم المستقبليات يوفال نوح هراري.(أرشيف)
المؤرخ الشهير وعالم المستقبليات يوفال نوح هراري.(أرشيف)
الأحد 3 مايو 2020 / 19:52

اختبار الأفكار في أزمنة الأزمة والوباء

القول بنهاية الأوبئة يبدو مجافياً للواقع، بدليل الوباء نفسه، وما فعل بالعالم حتى الآن، وما سينجم عنه من آثار قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، ويصعب التكهن بها

دخل تعبير "نهاية التاريخ" لغة السياسة، والسجالات الثقافية، وحتى الأحاديث اليومية، بعد انهيار جدار برلين قبل ثلاثة عقود. ويصعب القول إن أحداً من العاملين في الحقل الثقافي لم يسمع تعبيراً كهذا، ولم يستخدمه بطريقة أو أُخرى، على مدار العقود القليلة الماضية.

بل ويبدو استخدام التعبير، أحياناً، من باب التدليل على سعة الاطلاع، وعمق المعرفة، خاصة إذا تمت الإشارة، أيضاً، إلى فرانسيس فوكوياما، الأكاديمي الأمريكي، الذي نحت التعبير، ودلل عليه، ضمن معالجات ذات صلة، في كتاب بعنوان "نهاية التاريخ والإنسان الأخير". ولعل العنوان في ذاته يكفي لتبديد كل شكوك بشأن فرضيته الرئيسة.

خلاصة "نهاية التاريخ" أن انهيار جدار برلين يؤشر إلى انتصار الرأسمالية، والمعسكر الغربي، بقيادة الولايات المتحدة، في معركة القرن العشرين الكبرى، على الشيوعية، والمعسكر الاشتراكي، بقيادة روسيا السوفياتية. ولهذا دلالة تتجاوز المعسكرين بقدر ما تؤكد، بالدليل القاطع، على نهاية الأيديولوجيا، والصراعات الكبرى، وغلبة الليبرالية في الفكر والسياسة، علاوة على حرية السوق، إلى حد يدفع الناس إلى التثاؤب قبالة شاشات التلفزيون.

والمفارقة أن فرضية فوكوياما، التي بدت مغوية تماماً، في حينها، لم تصمد طويلاً فقد بددتها حروب البلقان، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، والحروب الأميركية في أفغانستان والعراق، وموجة الإرهاب التي ضربت العالم، وبلغت ذروتها في استيلاء الدواعش على أجزاء كبيرة من سورية والعراق، قبل تدمير "خلافتهم".

ولأن فكرة فوكوياما لم تصمد طويلاً أصبحت موضوعاً للتندر، أيضاً، ولعل في هذا ما أسهم في تغييب فرضيات، وحقائق أساسية، منها أن "نهاية التاريخ"، بتأويلات مختلفة، ليست حكراً على الحركات الخلاصية، بل تمثل جزءاً عضوياً في بنية التصوّرات اللاهوتية والفلسفية للكون والتاريخ على مدار قرون طويلة. لذا، وبقدر ما كانت الفرضية سريعة ومتسرعة، إلا أنها لا تشكو من ندرة المصادر الفلسفية والمرجعيات التاريخية.

ومناسبة هذا الكلام أن وباء كورونا المُستجد يستدعي، هذه الأيام، ضرورة إعادة النظر في فرضية طرحها يوفال نوح هراري قبل أربع سنوات في كتاب بعنوان "الإنسان ـ الإله: موجز تاريخ الغد". ومسوّغات العودة أن نجم هراري، وهو مؤرخ وأكاديمي في الجامعة العبرية، سطع في سماء الأكاديميا والثقافة الغربية قبل عشر سنوات، تقريباً، مع صدور كتابه "الإنسان العاقل: موجز تاريخ الجنس البشري"، وأن كتابه اللاحق انطوى على فرضيات وأفكار مغوية، وقابلية بدت عالية في حينها للإقناع.

أما الفرضية التي أود التذكير بها، هنا، فتتمثل في القول إن المشاكل الكبرى التي كانت مصدر تهديد دائم للإنسان، على مر التاريخ، قد انتهت. وقد أوجزها هراري في: الأوبئة، والمجاعات، والحروب. فهذه المخاطر قد انتهت بطريقة حاسمة، ففي الماضي كانت الأوبئة تفتك بأقوام، ومدن، وحتى حضارات، ولكن العلم الحديث مكّن الإنسان من القضاء على الأوبئة المعروفة، وسيمكنه من القضاء على المُستجد منها.

وهذا يصدق، أيضاً، على المجاعات التي كانت خطراً دائماً يتهدد البشرية في قرون مضت، ولكن الإنسان تغلّب عليها بالعلم الذي يكفي لزيادة الإنتاج، وفي ظل تطوّر وسائل النقل والاتصال، التي ستساعد في نقل المعونات من مكان إلى آخر، بسرعة قياسية خلافاً لما كان عليه الحال في الماضي.

والحروب، أيضاً، لن تكون مدمّرة، كما كان الشأن في الماضي، نتيجة تكافؤ أو توازن الردع الذي يجعل خيار الحرب، والتدمير المتبادل مخيفاً، في نظر الأقوياء في العالم، ومن مصلحة هؤلاء عدم إشعال، أو الدخول في حروب طاحنة، دون أن ينفي هذا حروب الوكالة، والحروب المحدودة والقابلة للاحتواء.

وخلاصة هراري، نتيجة هذا كله، أن الإنسان، ومع تقدّم العلم، سيتمكن من إطالة العمر، أيضاً. وهذا يعني أن مصدر الخطر الرئيس بالنسبة للإنسان لن يكون الوباء، والمجاعة، والحرب، والتقدّم في السن، بل الموت نتيجة الحوادث غير المتوقعة كالغرق، وحوادث الطائرات، والسير، والاغتيال. لذا، سيبذل الناس جهداً كبيراً وأموالاً طائلة لتفادي أشياء كهذه. وبما أن هذا يحتاج الكثير من المال، خاصة في موضوع العلاج وإطالة العمر، والأمن الشخصي، ستنقسم المجتمعات إلى أغنياء وفقراء بطريقة غير مسبوقة.

وما يعنينا، في الوقت الحاضر، ومع التسليم بحقيقة أن البشرية ستتمكن من إيجاد العلاج الناجع لفايروس كورونا المُستجد، إلا أن القول بنهاية الأوبئة يبدو مجافياً للواقع، بدليل الوباء نفسه، وما فعل بالعالم حتى الآن، وما سينجم عنه من آثار قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، ويصعب التكهن بها. وهذا يعيدنا إلى أفكار بعينها تبدو مغوية في حينها، ولكن اختبار الزمن، وحده، هو الوحيد القادر على الحكم لها أو عليها.