الأحد 10 مايو 2020 / 21:05

نمطان في التعامل مع الجائحة..!

الحياة في ظل الحجر الصحي لا يمكن أن تكون بديلاً عن الحياة، والعلاقات اليومية، المألوفة، ولا يمكن أن تتحوّل إلى نمط خاص لأنها وثيقة الصلة بدورة الإنتاج والتبادل

يعيش العالم على مدار أشهر، أصبحت طويلة الآن، لا بعدد الأيام وحسب، ولكن بالعبء النفسي، والثمن الباهظ، أيضاً، في ظل جائحة الكورونا المُستجد. والواقع أن الفترة الزمنية الطويلة، نسبياً، تبرر الكلام عمّا يمكن وصفه بالنموذج، أو النمط (pattern) الذي حكم طريقة وسلوك الدول والحكومات في التعامل مع الفايروس، وسبل مكافحته، والوقاية منه. وعلى الرغم من إمكانية الكلام عن استثناءات، وحتى عن خصوصية وسمت سلوك بعض البلدان، إلا أن النمط العام فرض وجوده، بالتأثير والتأثّر، وتجلى في كل مكان.

ففي كل مكان، تقريباً، وفي فترات زمنية متقاربة، فُرضت قيود على حرية التنقّل والسفر، وكذلك سياسات الحجر الصحي، وانتهى الأمر إلى تعطيل حركة الملاحة الجوية، والانتقال من بلد إلى آخر، في ظل إغلاق الحدود البريّة، والمنافذ البحرية والجوية، وفتحها في حالات استثنائية من نوع إعادة العالقين في بلدان أُخرى، أو استقبال مساعدات طبية، ومبادلات تجارية ضرورية.

بيد أن الأمر لم يقتصر على ما تقدّم، فقد أعقبه، وترافق معه، إغلاق لمقاطعات ومدن وولايات، وحتى بلدان بأكملها، وفرض حظر التجوّل، والحد من حرية الانتقال، وأغلاق المنشآت الاقتصادية والعامة، ما عدا الطبية، وما يتصل بتأمين المواد الغذائية، وغيرها من خدمات ذات صلة.

تجلى هذا كله في ظل سباق مع الزمن من جانب دول وحكومات اكتشف القائمون عليها أن تفشي الوباء، وخروجه عن السيطرة، قد يؤدي إلى انهيار كامل لقطاع الخدمات الصحية، وموت وإصابة أعداد هائلة من السكّان، مع كل ما تنطوي عليه أشياء كهذه من مخاطر الفوضى، والفشل في إدارة الموارد، وانهيار آليات الضبط والسيطرة الاجتماعية والسياسية. وفي سياق كهذا، لجأت دول وحكومات مختلفة إلى محاكاة إجراءات، وسياسات وقائية، في بلدان قريبة وبعيدة، من باب الاحتياط. وثبت أن هذا كله كان في محله.

وقع كل ما تقدّم بطريقة سريعة، وحاسمة، وفي فترات زمنية متقاربة، في ظل ما يشبه الذعر الجمعي، في مناطق مختلفة من العالم. وعلى الرغم من إدراك مُسبق للتكلفة الاقتصادية الهائلة للإغلاق، ووقف النشاط الاقتصادي، والمبادلات التجارية، إلا أن تهديد الوباء الزاحف أخرج حسابات كهذه من دائرة الاهتمام العام.

والآن، بعد مرور أشهر، أصبحت طويلة، يمكن الكلام بقدر من الطمأنينة عن ظهور ما يمكن تسميته بنمط جديد في سلوك الدول والحكومات، أي محاولة التأقلم مع الجائحة في أماكن مختلفة من العالم. ومبرر المحاولة أن الوصول إلى لقاح أو علاج ناجع يحتاج مزيداً من الوقت، وأن إجراءات السيطرة على تفشي الوباء بالوقاية، وتوفير المرافق والخدمات الصحية، أثبتت فعاليتها، وأن دورة الحياة الاقتصادية لا تحتمل التوقّف شبه الكامل.

وهذا، في الواقع، ما يتم التعبير عنه هذه الآونة الأخيرة بالتخفيف من القيود المفروضة على حركة المواطنين، والدورة الاقتصادية، بما فيها الإنتاج والتبادل، ناهيك عن المرافق والمنشآت العامة، والعودة التدريجية إلى المدارس والجامعات، وبعض أوجه الترفيه، والنشاط الجمعي المحدود في الفضاء الاجتماعي العام. تتفاوت تجليات هذا الأمر من مكان إلى آخر بطبيعة الحال، ولكنها تمثّل الاتجاه العام، في مناطق مختلفة من العالم، في المدى القريب على الأقل.
ولا يصعب، في سياق كهذا، الكلام عن قدر من الداروينية الاجتماعية. فدورة الإنتاج والتبادل لا تحتمل المزيد من الشلل، الذي لا يقل خطورة على المجتمعات، والسلم الأهلي، من الجائحة نفسها. كما أن الحياة في ظل الحجر الصحي لا يمكن أن تكون بديلاً عن الحياة، والعلاقات اليومية، المألوفة، ولا يمكن أن تتحوّل إلى نمط خاص لأنها وثيقة الصلة بدورة الإنتاج والتبادل. وهذا، بدوره، يصدق على الحدود السياسية، والعلاقات الدولية، أيضاً.

ولعل في هذا كله ما يكفي للكلام عن نمطين في التعامل مع الجائحة: السيطرة، والتأقلم. عرفنا السيطرة على مدار أشهر مضت، ونشهد في الأسابيع الأخيرة، بدايات التأقلم. والمهم، كلاهما يتجلى في الواقع، ويجاور الآخر، ولكن محاولة التأقلم، هي الخيار الغالب على مدار وقت قد يطول أو يقصر، حتى اكتشاف لقاح ناجح، وعلاج ناجع، لوباء لن تنجو البشرية من ذكرياته، وتداعياته الاقتصادية والسياسية والثقافية، على مدار عقود لاحقة بالتأكيد.