الإثنين 1 مارس 2021 / 22:00

وثائق الأرشيف الوطني.. نحو فهم أعمق لتاريخنا

"من لا يعرف ماضيه لا يستطيع أن يعيش حاضره أو مستقبله"، بتلك الكلمات القليلة اختصر الوالد المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، أهمية دراسة التاريخ ومعرفة كل ما يتعلق بدولة الإمارات ومجتمعها، جغرافياً وتاريخياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً.

وهي كلمات حوّلها الشيخ زايد، كعادته، إلى واقع عملي حين وجّه بإنشاء "مكتب الوثائق والدراسات" سنة 1968، لينهض بمهمة جمع الوثائق والمعلومات عن تاريخ إمارة أبوظبي والمنطقة وشبه الجزيرة العربية، وهو المكتب الذي شهد عدة تغييرات في مسماه بعد قيام الاتحاد حتى استقر منذ عام 2014 على اسم "الأرشيف الوطني".

يحظى الأرشيف الوطني بدعم القيادة الرشيدة، وبمتابعة مباشرة واهتمام كبير من سمو الشيخ منصور بن زايد آل نهيان، ويمتلك الأرشيف اليوم ملايين الوثائق التي تتعلق بتاريخ دولة الإمارات والخليج العربي، والتي لا تقتصر على اللغة العربية، بل تشمل لغات عدة، وتقدم معلومات مهمة عن مئات السنوات من تاريخ الجزيرة العربية.

وإذا كان جمع هذه الوثائق وفهرستها وتبويبها وحفظها وفق أفضل الوسائل المعروفة هدفاً بالغ الأهمية، فإن ذلك ليس الغاية النهائية الأخيرة، لأن المطلوب حقّاً هو أن تكون هذه الوثائق أساساً لجهود عملية دائبة ومتواصلة من خلال إخضاعها مرة بعد مرة للدراسة والبحث، والتدقيق والفحص، والتحليل والنقد، ومقارنتها ببعضها بعضاً لتقديم تصورات ورؤى لمختلف جوانب الحياة على هذه الأرض الطيبة، ودراسة الوقائع التاريخية والممارسات والبنى المجتمعية والسياقات الفكرية والثقافية والإبداعية ومنظومات القيم والعوامل التي شكلت الشخصية الوطنية لأبناء دولة الإمارات عبر مئات السنوات، على النحو الذي وفَّر أساساً للنهضة السريعة والشاملة التي نجحت الدولة في تحقيقها منذ الثلث الأخير من القرن العشرين.

وباعتبار تاريخ الإنسان في أي منطقة على الأرض سلسلة متصلة الحلقات، فإن بذور ملحمة البناء والتنمية التي شهدتها دولة الإمارات طيلة نصف قرن، قد تشكلت في إطار فكري وقيمي ومجتمعي يمكن إدراك جوانبه المختلفة من خلال دراسة الوثائق واستقرائها.

إن المقولة الفلسفية التأسيسية "اعرف نفسك"، ليست مقتصرة على الأفراد، لأنها تنطبق كذلك على تاريخ الأمم والشعوب التي تجعلها معرفتها بنفسها أقوى وأصلب وأقدر على مواجهة التحديات. والأرشيف الوطني الثري، الذي يمثل ذاكرة أمينة للوطن، من بين أهم الركائز في رحلة معرفة الذات الوطنية ومكوناتها الأصيلة وتحديد ملامحها التي تبلورت عبر تفاعل الإنسان والزمان والمكان والأحداث المتوالية في هذه البقعة الطيبة من الأرض التي ننعم بخيرها وأمنها.

إن الكم الهائل من الوثائق، والتنوع والثراء اللذين تتسم بهما، واختلاف المجالات التي تغطيها، يتطلب فرق عمل مختلف تمتلك المعرفة المتخصصة والقدرات الأكاديمية الرفيعة، كما تحتاج كذلك إلى الإيمان بالمهمة الوطنية التي تتصدى لها، لأن مثل هذا الإيمان سيكون الطاقة الخلاقة التي تشحذ الطاقات وتُذكي المهارات. ويجب أن يشارك في هذه الجهود مختصون وباحثون في التاريخ والآثار والأنثروبولوجيا والسياسة والاجتماع والأدب واللغات. ويوفر تنوع القاعدة التعليمية في الدولة والتطور النوعي في التعليم والبحث العلمي أساساً متيناً لهذا المشروع الطموح.

ويحتاج تحقيق مثل هذا الهدف إلى التعاون الوثيق وتطوير آليات للتعاون والشراكة بين الأرشيف الوطني والجهات التي تمثل شريكاً طبيعياً في تنفيذ مثل هذا المشروع، وعلى رأسها الكليات والجامعات والمراكز البحثية في الدولة بشكل أساسي، وفي الدول التي يتقاطع تاريخها مع تاريخنا، والمؤسسات الثقافية الإقليمية والدولية ذات الصلة، والباحثين المهتمين في الدولة وفي دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وتحديد الصيغ المثلى للتعاون، ولاسيما أن الأرشيف الوطني يقدم للباحثين تسهيلات كبيرة من أجل الاطلاع على الوثائق، كما أنه أطلق منذ عامين، وبالاشتراك مع الأرشيف البريطاني، مشروع البوابة الإلكترونية للأرشيف الرقمي للخليج العربي، الذي يمثل كنزاً ثميناً للباحثين في تاريخ دولة الإمارات ودول مجلس التعاون.

إن قسماً كبيراً من تاريخ الدولة والمنطقة لم يُكتب بعدُ، ولا يقتصر ذلك على التاريخ السياسي الذي يضم الأرشيف الوطني كمّاً هائلاً من الوثائق بشأنه، بل يمتد إلى التاريخ الاجتماعي وحياة الناس العاديين الذين تقدم الوثائق تفاصيل حياتهم وأنشطتهم اليومية والأعمال والحرف التي يزاولونها، والأدوات التي يستخدمونها، والأزياء والمعاملات وعادات الطعام والشراب والاحتفالات والمناسبات والعلاقات الأسرية والعائلية، وغيرها من التفاصيل التي تشكل الحياة الاجتماعية الجديرة بالدراسة والبحث.

يحتاج هذا المشروع أيضاً إلى تعاون من مؤسسات أخرى، مثل أجهزة الإعلام ومؤسسات التربية والتعليم والقطاع الخاص، والتي يمكن لها جميعاً أن تساهم في إلقاء الضوء على هذه المهمة النبيلة، وتعرّف بها على النحو الذي يتناسب وأهميتها، وتحفز الاهتمام بها، وتوجه نحوها طاقات أبناء الوطن المخلصين، وهم كثر بحمد الله وتوفيقه. ويجب أن نعلم أن الفجوة الملحوظة في كتابة تاريخ المنطقة ستترك فراغاً يمكن لآخرين أن يشغلوه، بالمعلومات المغلوطة والمحرفة عن جهل أو عن عمد، ويحتم علينا واجبنا الوطني أن نحول دون ذلك.