الإثنين 7 أبريل 2014 / 19:14

‫"‬الثوري" فيه "الأثور" منه



١
"الخير"، أو "الصح" أو "الحق"، كلمة مبهمة جداً، تعبر عن مجموعة من التصرفات التي يؤمن مجموعة من البشر بأنها "أفضل". هذا معقول، حقها. إنما ما ليس من حقها أن تفرض هذا على الآخرين، أن تفرض عليهم الإيمان بنفس "الخير".

محاولة فرض الخير سمت ملازم للجماعات الدينية، التي تحول "الخير" الخاص بها إلى دين، أو الدين الذي تؤمن به إلى "الخير"، يدين الناس به، ويدين الناس له، ويدان الناس إن خالفوه أو ناقشوه. فما كان مفروضاً أن يدون في دفتر حسابهم ليحاسبوا عليه في آخرتهم، يستدعى بسلطان المتدينين من الآخرة إلى الدنيا، كإضافة إلى سلطة رافعي الشعار، لكنهم - طبعاً - لا يقولون هذا. يقولون إنهم يفعلون هذا من أجل "المستوي على العرش، فوق السماوات السبع".

جماعات سياسية عالمانية تفعل ذلك أيضا بطريقة ملتوية، فتبحث عن شعار إن لم تكن له قداسة الدين فإن له قداسة "أخلاقية" لا بأس بها. شعارات كثيرة قامت بهذا الدور مثل "الوطنية"، و"القضية"، و"العروبة". والآن فإن أشهر الشعارات المستخدمة في مصر بهذه الطريقة شعار الثورة. يتحول الاختيار السياسي إلى "اختيار ثوري أو لا ثوري"، يتحول الاختيار الاقتصادي إلى "ثوري ولا ثوري". وكأن الثورة كيان علوي يملي أحكاماً، ليس من السماء، ربما من على أطراف الغلاف الجوي، ربما، ويوحي بها إلى من اصطفى من البشر. وقيسي على ذلك.

وأعني هنا بالطبع الجماعات السياسية الشيوعية والاشتراكية، فتلك قفزت على المسار السياسي لـ ٢٥ يناير، واحتكرت لخياراتها الاقتصادية الشيوعية الاشتراكية وصف "الثوري"، لتخلق في خطابها جنة تستطيع أن تطرد منها أصحاب وجهات النظر المختلفة، دون أن تدخل في عناء، ولكي توجه أنظار الناس إلى هدف "سام"، توحي لهم بأن تحقيقه يُغني، ويعوِّض، عن تحقيق المصالح الدنيا الممكنة القياس. لو طاوعتيهم ستقضين بقية حياتك تلاحقين الفعل "الثوري" ولا تدركينه، لأنه - ببساطة - لا يمكن التعرف عليه، ولو جلست بين عشرة من الثوريين لوجدت أن الفعل "الثوري" بالنسبة لكل منهم مختلف عن الآخر، ولخرجت بخمسة سيناريوهات "ثورية" على الأقل عند كل مفرق، كل سيناريو يلعن أخاه.

ليت الكارثة تتوقف هنا. الطرف الذي يرفع شعاراً - غالباً - طرف ضعيف يريد من الشعار أن يحمل عنه عبء الإقناع. ينتهي بنا الأمر إلى شعار "خير"، لكنه يخفي قيماً وسياسات وأخلاقاً وأساليب حكم ضارة، متلفحة بقناع "الإنسانية" أو "الحق" أو "الدين" أو "الثورة". ليس أي من ذلك إلا مصالح لمجموعات بشرية، كل ما في الأمر أنها لم تكن من الصدق بحيث تعرض مطالبها بهذه الصفة (تحقيق المصالح)، بل حاولت أن تحتكر لنفسها مقاماً أعلى، لا في النجاعة العملية، والقدرة على تحقيق النفع، بل في صورتهم في مرآة أنفسهم، ارتفاع قاماتهم على مازورة الأخلاق المعتمدة لديهم، والمرسومة بأيديهم، سنتيمتر خيارات بعد سنتيمتر، وملليمتر بعد ميلليمتر.


٢
- يا مرايتي يا مرايتي… هل في الساحة من ينافس جماعتنا؟

- نعم.

- إذن سنغتالهم بسم الكلام، وسم الإشاعات، وسم البذاءات، وسم الاتهامات.

٣
المبادئيون يعشقون سب عبارة "الغاية تبرر الوسيلة". قد تسمعينها من الواحد فيهم ألف مرة في المناقشة الواحدة. والمفارقة أنهم أكثر أناس في العالم يمارسون شعار "الغاية تبرر الوسيلة" عملياً. المذيعون منهم يمارسون الرقابة على من يستضيفونه ومن لا يستضيفونه، ثم يحاضروننا عن "المهنية الإعلامية"، وعن الإعلام المتوازن، وعن ضرورة أن يأخذ الجميع فرصهم بالتكافؤ ثم نترك الخيار للجمهور. السياسيون منهم يفصلون قوانين لإقصاء سياسيين بأعينهم، ثم يحاضروننا عن مخاطر "الإقصاء"، وعن شرور "ترزية القوانين". الناشطون منهم أخصائيو حملات تعريض يتداولون فيها الكذب كما يتداول المصريون النكات. مشكلتهم أن هذا سلوك واضح، يراه كل من حولهم، وسرعان ما ينتقدونهم عليه. في مواجهة الانتقاد، يسعى السياسيون "الطبيعيون، البشريون"، إلى مراجعة أنفسهم، وانتقاد ذواتهم، وبالتالي تغيير وسائلهم. وذلك لأن السياسيين "الطبيعيين" لا يقدمون خياراتهم على أنها "الحق" في مقابل الباطل، وبالتالي يستطيعون تغييرها إن رأوا أنها ليست ناجحة. وليس ذلك الحال مع المبادئيين، الذين يعتبرون خياراتهم أحكاما سامية، فإن غيروا خياراً اتهمهم أقرانهم وجمهورهم بأنهم "غيروا مبادئهم". ما الحل إذن إن فشلت الخيارات، كما فشلت خياراتهم في إدارة ما بعد ٢٥ يناير؟

الشعار "المقدس" الذي ألصق سابقاً بالغاية، سيستدعى الآن لكي يلتصق بكل خطوة، بكل وسيلة، لتحقيق تلك الغاية. فيحصنون الوسيلة من الانتقاد، كما سبق وأن حصنوا الغاية. تتحول كل خطوة إلى حق، أو خير، أو فعل ثوري. وتصير العلاقة بين قرارات القيادة والجمهور محكومة بدقة، كالعلاقة بين الخيط والقماش، حيث القيادة تطرز الخيط على قطعة القماش كما تريد. ويصير أكثرنا حمقاً، وأقلنا قدرة على التفكير التفصيلي العملي، أكثرنا مباهاة بأفعالهم، لمجرد أنهم أكثرنا بجاحة، ولأنهم لا يستحون من فعل الشيء ونقيضه، والنهي عن شيء وإتيان مثله، ولا يستحيون من مدح أنفسهم، ولا يستحيون من استخدام الألفاظ البذيئة ردا على الأفكار.

المبادئيون مفسدون لأخلاق الناس.