الأربعاء 17 أغسطس 2022 / 20:02

انتصاراً للعقل والمستقبل.. أصبح للفلسفة "بيت" في الإمارات

أنتمي إلى جيل درس الفلسفة في الصفوف المدرسية المبكرة، وفي ذاكرتي أصداء مناقشات حول مسائل دقيقة كالوجود وطبيعة الإنسان وآراء المدارس الفلسفية المختلفة حول ذلك. كانت أسئلة صعبة لكن طريقة التدريس كانت سهلة راقية لم نشعر معها بما يثيره البعض من مخاوف حول الدرس الفلسفي. لابد وأن هؤلاء البعض هم وراء سحب بساط الفلسفة من مناهجنا وتشويه صورتها في أذهان أبنائنا، وهو ما يمكن استخلاصه من الكتاب القيم للدكتور جمال سند السويدي "الحسابات الخاطئة" الذي يستعرض مسيرة جماعة الإخوان المسلمين في الإمارات ومحاولاتها التأثير على مناهج التعليم وطرق التدريس في الإمارات، ولا شك في أن الفلسفة كانت أبرز ما استهدفوه لأنها منهج وأداة تفكير عقلاني مجردة تمنح الإنسان القدرة على بناء مواقفه بنفسه فلا يكون فردا في قطيع.

وقد تنبه التنويري الكبير طه حسين باكراً إلى هذا الدور المهم للفلسفة، حين وضع كتابه "قادة الفكر" (1925) ليعرف بالفلسفة ورموزها، فيقول إن الفلسفة هي "وسيلة الإنسان إلى أن يتصوّر الحقائق كما هي ويحكم عليها الأحكام التي تلائم طبائعها، أو قل: إنها الوسيلة إلى أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله لا بخياله ولا بحسه ولا بشعوره"، أي أن الفلسفة هي سبيل العقل وأداته لاستقراء العالم، والأهم من ذلك لبلوغ التطور الذي يشير إليه طه حسين بوصفه كان أساساً لبناء الحضارتين اليونانية والعربية. وبالتالي ليس مستغرباً أن تكون الفلسفة أول ما يستهدفه كارهو الحضارة والتفكير، لأن تغييب العقل هو بوابة التكفير وأساس بناء الكراهية على أسس أيديويوجية.

وهذا ما يفسر سعي الإخوان الإرهابيين الحثيث إلى محاربة كل تجربة فكرية جادة وكل طرح يعلي من قيمة التفكير العقلاني الراقي. إنهم صناع زمن التكفير الذين جعلوا التكفير عقابا للتفكير، كما قال المفكر القدير نصر حامد أبوزيد في كتابه الهام الذي يحمل الاسم نفسه "التفكير في زمن التكفير".

وإذا كانت الفلسفة قد غُيبت عن مناهجنا التعليمية بفعل فاعل، وقد أثر ذلك بشكل أو بآخر في خفوت صداها في دور النشر والمؤسسات الثقافية والصحف، لكنها لم تكن يوماً غريبة عن الحراك المجتمعي والثقافي والفكري في الإمارات، فمن يراجع قائمة الإصدارات المهمة التي أصدرها المجمع الثقافي في أبوظبي سيدهش لكمّ الكتب ذات الصبغة الفلسفية أو الكتب الموجهة للنشء والتي تعرف برموز الفلسفة وروادها حول العالم.

كما أن مشروع كلمة للترجمة قد أضاف منذ انطلاقته إلى المكتبة العربية، باقة مهمة من الكتب التي تعنى بالفلسفة والتفكير والعقل الناقد.

وثمة جهود كبرى مبذولة إماراتياً لاستعادة حالة الاهتمام العلمي الأكاديمي العربي بالفلسفة، كنا قد أشرنا إلى بعضها في مقال سابق تعليقاً على مبادرة إعادة تدريس الفلسفة في المدارس، ومنها برنامج بكالوريوس الآداب في الفلسفة والأخلاق الذي أطلقته جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية، ومبادرة "مفكرو الإمارات" التي أطلقها "مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية".

والحق أن إنجازات الإمارات في هذا المجال أكبر من أن نحصيها في مقال، لكن لا يفوتنا أن نشير هنا إلى المبادرة المهمة التي أطلقتها إمارة الفجيرة، ويوليها الشيخ محمد بن حمد الشرقي ولي عهد الفجيرة اهتماماً خاصاً وهي "بيت الفلسفة"، وهي مؤسسة ذات هيئة علمية وهيئة إدارية تأسست سنة 2021، وتقوم بدور حيوي في نشر الوعي الفلسفي، ليس في دولة الإمارات فقط، بل في العالم العربي كله.

وقد استطاع القائمون على هذا المشروع والمشاركون به، أن يقدموا خلال عام واحد نتاجاً كبيراً، يليق بالتطلعات الفكرية والمعرفية، ويخدم استراتيجية الإمارات الساعية إلى تنمية عقل الإنسان والإجابة عن أسئلة الراهن والمستقبل، فقد احتفل "بيت الفلسفة" خلال عامه الأول بـ "اليوم العالمي للفلسفة" بإطلاق مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، وهو الأول من نوعه في منطقة الخليج، وقد حمل عنوان "الفلسفة والراهن" وشارك فيه نخبة من فلاسفة العرب والعالم، وناقش أسئلة مرتبطة بتأصيل الوعي الفلسفي العربي، فضلاً عن إصدار كتب وترجمات وكراسات فلسفية وعقد دورات فلسفية تعليمية شهرية، تستهدف جميع الفئات، وإصدار مجلة دورية فصلية بعنوان "بيت الفلسفة" تكون لسان حال الفلاسفة العرب، وتأسيس "حلقة الفجيرة الفلسفية" بهدف بحث العلاقة بين الفلسفة العربية والعالمية.

هذا الدور الاستثنائي لـ "بيت الفلسفة" في الفجيرة، يخرج بالفلسفة من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام، ليجعل الفلسفة زاداً يومياً يقدمه للأطفال والناشئة والشباب والأمهات والمعلمين والمهتمين، حتى يساعدهم على التفكير العقلاني ويعزز الوعي الجمالي والمعرفي لديهم، فهو يقدم برامج للأطفال لتعليمهم التفكير الفلسفي، بطرائق مبتكرة وأنشطة جاذبة، ويدرب المعلمين لتعليم الطلبة التفكير الفلسفي بالمدارس، ويعد دورات للأمهات تمكنهن من فن التعامل مع أسئلة الأطفال الفلسفية في جميع المجالات.

إن التاريخ العربي زاخر بأسماء مهمة في الفلسفة يعرف قيمتها الغرب قبل الشرق، مثل ابن رشد وابن خلدون ويعقوب بن إسحاق الكندي وابن باجة وابن الهيثم وابن طفيل، وإذا كان هذا هو الماضي الذي نهل منه العالم، فأين هو مستقبلنا؟
إن المستقبل هو ما التفتت إليه الإمارات ودول الخليج العربي، وما نراه متمثلاً في منابر عدة، ومبادرات خلاقة مثل "بيت الفلسفة" وغيره. المستقبل هو ما نراه في استراتيجيات التعليم التي تحض على تعلم الفلسفة بما لها من رمزية معرفية كونها أم العلوم، وكونها تتعلق بتنمية العقل.

إن هذا الاهتمام بالفلسفة إماراتياً، يمتد إلى دول أخرى في الخليج العربي، وإذا كنت قد أشرت مسبقاً إلى عودة تدريس الفلسفة في المدارس السعودية، فمن المهم أيضاً الإشارة إلى تأسيس أول جمعية تعنى بالشأن الفلسفي في الرياض، وهي "جمعية الفلسفة" والتي تسعى إلى تمكين المهتمين بالفلسفة من المشاركة المجتمعية في المجال الفلسفي، والمساهمة في نمو الثقافة الفلسفية في السعودية.

إن ما يحدث في دول الخليج من اهتمام بالفلسفة هو أمر يدعو للبهجة، لأنه لا يمكن مجابهة المستقبل دون عقل نقدي، ولا يمكن التقدم نحو الغد دون تفكير عقلاني، ولا يمكن بناء المجتمع دون وعي حر، ولا يمكن محاربة الإرهاب دون تفكيك لخطاب التكفير الزائف، ومعين كل هذا هو الفلسفة التي قال الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل عنها إنها "توسع من أفق تصورنا لما هو ممكن، وتغني خيالنا العقلي وتقلل من التوكيد الدوغمائي الذي يغلق السبيل أمام العقل في التأمل، وقبل كل شيء، نحن ندرس الفلسفة لأنه من خلال عظمة الكون الذي تتأمله الفلسفة، يصير العقل ذاته عظيماً"، لذا ففي سعينا للتعلم ولتغيير المستقبل وجب علينا أن نتعلم الفلسفة.

ولا يمكن نسيان الدور التربوي الذي تؤديه الفلسفة، من تعزيز للتعددية ونبذ التعصب ونشر ثقافة التسامح والتعايش، وهو جزء أساسي من استراتيجية دولة الإمارات لتنمية روح الاحترام المتبادل والتعايش السلمي والفهم الإيجابي بين جميع الثقافات والمعتقدات، وهو المعنى الذي أكد عليه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حين قال "إنّ دولة الإمارات، ومن خلال سياستها ونموذجها في المنطقة، ترسل رسائل إيجابية حول ضرورة التسامح والتعايش والعمل التنموي المشترك، للتصدي للعديد من التحديات التي تواجهنا مجتمعين في إطار الأسرة الدولية".

إذا كان عماد الحضارات هو العلم والتربية، فإن أي حضارة ـ بهذا المعنى ـ تنشأ على أكتاف الفلسفة التي ترعى هذين الفرعين، ولعل الحضارتين اليونانية والعربية خير دليل، وما تفعله دولة الإمارات اليوم، في كل المجالات التي تسبق الصفوف فيها من غزو للفضاء إلى التقدم التكنولوجي والمعرفي والتعليمي الشامل، لهو دليل على استراتيجية دولة تدرك المغزى الحقيقي لفلسفة المستقبل، وتدرك أهمية بناء العقل الواعي المفكر، وتدرك مغزى أن تكون الفلسفة جزءاً من منهجها التعليمي والتربوي.

إن هذا الاهتمام بالفلسفة في الإمارات وغيرها من دول الخليج والاهتمام بمد تأثيرها الفكري إلى العالم العربي، يؤشر إلى رغبة حقيقية في تأسيس حضارة قائمة على تعزيز قيمة الوعي العقلاني والمعرفة، وهو ما يصدق عليه ما قاله الأب المؤسس المغفور له الشيخ زايد طيب الله ثراه "إن تعليم الناس وتثقيفهم في حدّ ذاته ثروة كبيرة نعتز بها، فالعلم ثروة ونحن نبني المستقبل على أساس علمي".

ولهذا نرغب في التعلم، ولهذا نحب الفلسفة، ولهذا نتقدم بثقة وإيجابية وانفتاح نحو المستقبل.