الأربعاء 23 أبريل 2014 / 22:19

في البدء لم تكن الكلمة، كانت المادة


لماذا ظل القمر بطل قصص الحب؟ لأن العشاق القدماء إذ تسللوا بالليل للقاء أحبتهم رأوا القمر حارساً وفاضحاً، وهادياً وكاشفاً. وإذ جلسا معا رأيا القمر من زاوية لصيقة. صار القمر جزءاً من حياتهما معا، من أجمل لحظاتهما معاً، وأيضاً رفيقاً مع النجوم في لحظات سهد وفكر أعقبت انشغال يوم. عنصر مؤثر جداً ضمن مجموعة المواد التي حولهم. ربما أول عنصر شاعري "عالمي". ولو كان الإنسان كائناً ليلياً، يمارس أنشطته بالليل، لغنى الأحبة للشمس الحارقة التي يواجهونها لكي يصلوا أحباءهم بينما يتوارى منها الناس.

ماذا يعني هذا؟ يعني أن القمر المرأي، وضوءه المستخدم، وفَّرا للأحبة مادة لشيء محسوس. وبالنسبة لكليهما مادي ومُدرَك ويمكن تطويعه لكي يصير شاعريا.

كلما انتقل البشر من بيئة إلى بيئة كلما صاروا محاطين بمواد أخرى، ويمارسون مهناً أخرى، وبالتالي ينتجون ألفاظاً جديدة تعبر عن المواد الجديدة، وينتجون صوراً جديدة مستقاة من المواد الجديدة والمهن الجديدة والخبرات الجديدة. منظومة تتسع معاً، طبقات بعضها فوق بعض، كطبقات الأرض الجيولوجية. مقارنة بين لغة شكسبير ولغة الأدب الإنجليزي المعاصر توضح إلى أي مدى تتطور اللغة مع تطور المجتمعات. هذا لا يعني أن القديم زال، إنما صار يحتل مساحة أصغر من المساحة التي كان يحتلها من الذائقة الجمالية والثروة اللغوية لأهله، القدماء.

طغيان الألفاظ والتعبيرات القديمة في لغة ما له معنى يتجاوز فقر اللغة. إن معناه فقر الخبرة المتراكمة، فقر المادة، فقر الإنتاج المادي، فقر العلاقة مع الأدوات من حولنا، وفقر الخبرة الجغرافية والبشرية الناتجة عن السياحة في الأرض، وفقر التنوع المهني. معناه أن المجتمع الذي يستخدم هذه اللغة توقف عن الإضافة الحضارية. معناه فقر التاريخ. ومعناه الأهم أن هناك شيئا "خطأ" في علاقة هذا المجتمع بحياته المعاصرة، أنه يحتقرها.

لكن الفشل لا يحب الإعلان عن نفسه. الفشل المصر على البقاء يحب الاستتار تحت شعارات كثيفة تقدمه بمسميات "أفضل". فشلُنا في التطور السياسي نعزوه إلى إيماننا بأن أفضل سياسة هي ما كان عليه بشر آخرون قبل ١٤ قرنا. ونضفي على تلك الأحكام السياسية الأثرية قداسة تقمع أي محاولة طبيعية لنقدها، وتوفر تهمة لمن تحاول أن تمارس هذه المحاولة الطبيعية العادية. وفشلُنا في تطوير اللغة نقدمه أيضا على أنه "اعتزاز بلغتنا العربية"، اعتزاز بالكلمة، الطاهرة، الدقيقة، الربانية، لغة أهل الجنة، ولغة كلام الله، أو على الأقل لغة الطبقة المسيطرة. وبالتالي المحجوزة بدائرة من الأذواق والأحكام التي تمنعها من الشطط، من الخروج عن "عاداتنا وتقاليدنا".

الأمم التي تخاف من تطوير السياسة، هي نفسها الأمم التي لا تطور العلم، هي نفسها الأمم التي لا تطور الكلمة، هي نفسها الأمم التي لا تطور أنماطا من علاقات اجتماعية قادرة على استيعاب ما انضاف إليها عبر سنين وأحيانا قرون. جيوش من "الحزَّامين" في جميع المجالات، وظيفتهم هي الاحتفاظ بالمجتمعات والخبرات - المتراكمة - في نفس الصندوق، دون اعتبار لأبسط قوانين المنطق. حتى لو اختنق الجميع. ووظيفتهم الأخرى هي قطع الرؤوس التي تخرج من الصندوق، أو الإغراء بقطعها. إنها نفس المعركة ضد الحرية. أناس وظيفتهم في الحياة هي "القيود على الحرية".

وهنا تأتي وظيفة شعارات كـ "الكلمة النظيفة"، و"الكلمة الراقية". بحيث إن الكلمة القديمة تحتل دائماً المرتبة الأعلى حتى لو كانت لا تعني أي شيء سوى ما تعنيه قرينتها الشعبية. فكري في كلمة "نكاح" في مقابل مرادفها الشعبي. هذا - بالنسبة للغة - هو المعادل الموضوعي للتقديس الذي نضفيه على معتقدات وأفكار ونظم سياسية. هي في الأخير مجرد نظم سياسية اختلقها بشر مثلنا. وكلمات "خلقها" بشر مثلنا، لكي يعبروا عن حياة ليست أرقى من حياتنا، واستخدموا فيها مفردات مادية ليست أرقى من مفرداتنا، عادي، السيف والسهم والرمح وغيرها من منتجات مهنة الحدادة، ومواد القتال، المنتشرين في عهدهم. كلمات تعبر عن رغبات إنسانية لا تختلف - في المقام - عن رغباتنا الإنسانية الحالية.

هذا هو تقديس الكلمة. تحويلها إلى خالق بدلاً من مخلوق. إلى سابق بدلاً من مسبوق. وكأن الكلمات وجدت قبل المواد. كما الأحكام السياسية والاجتماعية وجدت قبل المجتمعات وبمعزل عن حاجاتها. الحقيقة التي لا بد أن نبدأ منها هي أن كليهما "خلق بشري"، يتغير ويتبدل وتتغير ملامحه ويندثر، وهو أيضاً يقوى ويضعف حسب قوة المجتمعات وضعفها. لا كلام مقدساً. لا مظهر مقدساً. لا أحكام سياسية مقدسة. كل هذا يخضع للبشر، ومن إنتاج البشر. في البدء لم تكن الكلمة.

هل هذا مهم؟ وهل أهم للبشر من التعبير عن أنفسهم!! دعي جانباً أهمية الإحساس بالحرية في استخدام اللغة كقوة نفسية تمهد للحرية في التفكير، حرية اللغة تحرير للموضوعات التي تطرحها اللغة في المجال العام. حرية اللغة تخلق مساحة للتنفس والتفكير في ما ينقصنا، ومساحة لعرض ما لدينا حقاً. الحرية تخلق "الحاجة"، والحاجة تخلق الابتكار. في البدء كانت المادة، فاخترع لها البشر كلمات تعبر عنها.