السبت 14 أكتوبر 2023 / 19:59

في كتاب جديد.. فيصل الحفيان يفكك ما وراء الخطاب النظري

في الكتاب الذي صدر مؤخراً عن مركز أبوظبي للغة العربية، التابع لدائرة الثقافة والسياحة بعنوان "فقه التحقيق من الصنعة إلى العلم" لمؤلفه فيصل الحفيان، أفكار عدة ينظمها خيط واحد، هو خيط واسطة عِقد المقاربات المنهجيّة للنصوص التراثية، أي التحقيق العلمي، بلغة أدبياتنا العربية، ونقد النصوص، أو النشر النقدي للنصوص، بلغة الأدبيات الغربية.

تجاذبات متعددة

سعى المؤلف في كتابه هذا كما جاء في مقدمته إلى أن يتكلم في المسكوت عنه، وهو كثير، ولذلك انتخب خمساً من قضايا التحقيق الرئيسة والمركزية هي: التحقيق (المصطلح المركزي)، والعلم، والتوثيق، والتعليق، والدرس.. محاولاً فهم تجاذبات المصطلح المركزي (التحقيق) مع الألفاظ والتراكيب اللغوية والتصورات المنتمية إلى أوعية وحقول معرفية أخرى.. وهي تجاذبات ليست داخل الثقافة العربية فحسب، وإنما داخل الثقافات الأخرى ذاتها، وبينها جميعاً جدل وتوتر، يستدعي نظراً.

وإلى ذلك كله فثمّة تباين الرؤى حول عمر المخطوط، وحدوده الزمانية والمكانية، بعد أن غدا كائناً تاريخياً خالصاً، لا يُعاد إنتاجه.

إن المخطوط اليوم هو التجسيد المتكامل للتاريخ وحركته، وكينونته مركبة، وترتبط به عوامل معرفية، في قلبها (النص) الذي يُعنى علم التحقيق بمقاربته وحل إشكالاته التاريخية واللغوية والمعرفية.. كان هذا هو التمهيد الذي جعله المؤلف موضوع الفصل الأول.

سؤال جوهري

في الفصل الثاني كان الهاجس -والكلام للمؤلف- أن نفقه ما وراء خطاب الكتب النظرية (المعيارية) التي تتحدث عن المصطلح (التحقيق) فتكتفي باقتصاص بعض معانيه اللغوية من دون أن تنزلها على المفهوم الاصطلاحي أو التصور بما يكشف أبعاده، وتخلط غالباً بينه وبين مصطلحات فرعية، مثل: التوثيق والتصحيح والضبط.. وفي الفصل الثالث أثار المؤلف سؤالاً جوهرياً من وجهة نظره: هل التحقيق آلية فحسب؛ أم أنه علم؟ والبون شاسع، وله مآلاته العظيمة في طرائق تكوين المحقق، ومن ثم في عدته وفي منهجه. ثم انداح سؤال جوهري آخر من المؤلف ليستتبع غير سؤال: إذا كان عِلماً، فإلى أي حقلٍ معرفي ينتمي؟ وهل لا يزال تحت العباءة التاريخية لعلم الحديث؟ أم هو علم لغوي (فيلولوجي) كما هو الحال عند الغربيين، أم أنه علم مستقل برأسه؟ كانت تلك أسئلة الفصل الثالث التي تلبث المؤلف عندها طويلاً.

ثم مضى في الفصل الرابع لتناول التوثيق، ورآه خطاً غير مرسوم (نظرياً) على الرغم من خطره على خريطة عمل المحقق، حتى إننا لا نجده عنواناً. كما هو الحال مع التعليق مثلاً. وإن وجد، فهو بلا حدود تفصل بينه وبين المصطلح المركزي (التحقيق). لذلك كان التركيز على مفهومه، وذلك بتفتيت النواة الدلالية للفظ، وتنزيلِها على العمل في النصوص.. وعمد المؤلف إلى فض اشتباكه مع المصطلحات الأخرى: التحقيق، والتخريج، والتعليق، والنقد.

فلسفة التعليق

أما التعليق فكان محور (الفصل الخامس)، فحاول الإجابة عن الأسئلة الهامة الآتية: لماذا نعلّق؟ ومتى نعلق؟ وكيف نعلق؟ وكم هو حجم التعليق؟.. ورأى أن السؤال الأول (لماذا) يُحيل على فلسفة التعليق وبناء الوعي به. والثاني (متى) على ترشيده حتى لا يغدو المحقق حاطب ليل. والثالث (كيف) على لغته وصياغته. والرابع (كم) على حدوده ومسائل البسط والإيجاز، وما بينهما.

وعدها أسئلة "تسعى للسمو بالتعليق ليكون نصاً موازياً، يعكس قراءة للنص تُجاوز إخراجه ونشره لتشيد نصاً جديداً".

في الفصل السادس من الكتاب، حيث فقه الدرس، تختلف الأسئلة، ذلك أن الدرس يفارق أعمال المحقق الأخرى في كونه عملاً تركيبياً.. أي أنه تناول الدرس مصطلحاً -على تردد واختلاف فيه- وفكرة، وموضوعاً، ورأى أن الدرس غير حاضر بالمستوى المرضي لدى سواد المحققين، ولذلك أسبابه التي تتكشف في موطنها تحديداً، وعلى امتداد فصول الكتاب جميعاً.

المحتوى المعرفي

وعن النص أو المحتوى المعرفي، الذي يرى المؤلف أنه المعرفة الأساس التي يحملها الوعاء، وتقوم عليه عمليات أربع، هي: الفهرسة، والتحقيق، والدرس، والنشر. الثلاث الأولى علمية: الفهرسة تعريف بالنص. والتحقيق درس مخصوص (أو نوع درس) توثيقي تاريخي، ناهض على النص، ويتغيّاه في الآن نفسه للوصول به إلى العملية الرابعة (النشر). كما أن المخطوط العربي اليوم قد غدا حقلاً معرفياً واسعاً، وجاوز النظر إليه النص الذي يحمله، ولذلك فإن الحديث اليوم عن (علوم المخطوط) لا عن علم واحد. تتعالق هذه العلوم مع مكوِّنات المخطوط، وهي مكونات تعطيه أربع قيم:

- قيمة أثرية، بوصفه جسماً أو وعاء أو كياناً مادياً.

- قيمة معرفية، بوصفه نصاً يحمل علماً أو معرفة أو فكراً.

- قيمة وثائقية تاريخية أو حضارية، بوصفه حاملاً لنصوص منوعة (لغوية وغير لغوية) ذات طابع علمي حيناً، وتعليمي حيناً، واجتماعي تاريخي أو حضاري حيناً.

قيمة فنية (جمالية) تعكس الصورة أو الصور التي تتجلى فيها القيم الثلاث السابقة.

استقامة اللفظ

أما أخطر فصول الكتاب في نظر المؤلف فيصل الحفيان، فهو الفصل الخاص بـ (فقه العلم) الذي بنى فيه موضوع التحقيق على أركان خمسة: نصيته، ولغويته، وعلميته؛ وتاريخيته، وكتابته. وبذلك استبانت حدوده، وارتفعت أسواره، فخرجت النصوص غير اللغوية، وغير العلمية، (الوثائق) وغير التاريخية (الحديثة والمعاصرة) وغير المكتوبة (المعرفة الشفاهية). والمؤلف مضى يقول أن المقصود هو مباني الألفاظ وصورها المرئية، وليس معانيها، فالتحقيق بحث عن اللفظ وفي اللفظ، لاستعادة صورته التاريخية الأولى، أما المعاني فتأتي بعد مرتبة على استقامة اللفظ.