الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كيسنجر (أرشيف)
الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات ومستشار الأمن القومي الأمريكي السابق هنري كيسنجر (أرشيف)
الجمعة 1 ديسمبر 2023 / 09:32

قرن من هنري كيسنجر

إلياس حرفوش-الشرق الأوسط

من الصعب أن تفتحَ صفحات الأحداث الكبرى من النصف الثاني للقرن العشرين من غير أن يكون لهنري كيسنجر مكان بارز في صناعتها أو التأثير فيها.

لم يكن هذا الألماني الأصل، اليهودي الديانة، الأمريكي الولاء حتى العظم، مجرد مستشار للأمن القومي أو وزير للخارجية، أو أحد أكبر الأكاديميين في حقل الدبلوماسية. كان كذلك صاحب رؤية لا يمكن فهم أدواره الدولية إلا من خلالها، يمكن تلخيصها بفرض النفوذ الأمريكي حول العالم ومواجهة القوى التي تعارض هذا النفوذ، بالدبلوماسية كخيار أفضل، وبالقوة حيث تعجز الدبلوماسية.
في عالمنا العربي، تحفظ الذاكرة دورَ هنري كيسنجر في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 ومفاوضات فك الاشتباك، على الجبهتين المصرية والسورية مع إسرائيل. التقط كيسنجر قراراً مهماً اتخذه الرئيس أنور السادات بعد توليه الحكم بطرد الخبراء السوفيت من مصر، وبعد ذلك إطلاق مقولته الشهيرة إن "99% من أوراق الحل في الشرق الأوسط هي في يد الولايات المتحدة". في كتاب لمارتن أنديك، السفير الأمريكي السابق في إسرائيل، عن كيسنجر بعنوان "سيد اللعبة"، ينقل عنه قوله: "لو اتصل السادات هاتفياً بواشنطن وطلب أي شيء قبل طرد الخبراء من مصر لكان حصل على ما أراد، إلا أنه قدم هذا العمل الجليل لنا مجاناً".

وكان على كيسنجر أن ينتظر اندلاع حرب أكتوبر 1973 ليطلب منه السادات ما يريد، وهو اتفاق فك الاشتباك الأول في سيناء في يناير (كانون الثاني) 1974، ثم الاتفاق الثاني في سبتمبر (أيلول) 1975، وبينهما فك اشتباك على جبهة الجولان في مايو (أيار) 1974.
لم تكن دبلوماسية هنري كيسنجر أقل أهمية في الشرق الأوسط عما كانت في مناطق النزاع الأخرى التي كان للولايات المتحدة دور فيها أو تأثير عليها. ضَمِن في البداية إبعاد وليم روجرز، صاحب "مشروع روجرز" الشهير، عن وزارة الخارجية خلال الولاية الأولى لريتشارد نيكسون، فيما كان كيسنجر مستشار نيكسون للأمن القومي. السبب أن كيسنجر وجد أن مشروع روجرز يمنح الاتحاد السوفيتي ورقة أقوى في التفاوض بين إسرائيل، ومصر، في زمن عبدالناصر.

كان همّ كيسنجر الحصول على موطئ قدم أمريكي في المنطقة على حساب النفوذ السوفيتي في معظم "دول الطوق" العربي في ذلك الحين. والتقت رؤيته إلى ذلك مع رؤية السادات. وفي حرب أكتوبر 1973 وتنفيذاً لسياسة "نصف انتصار ونصف هزيمة"، أمن كيسنجر المساعدة لحكومة غولدا مائير والجيش الإسرائيلي لتجنّب الهزيمة أمام تقدم الجيشين المصري والسوري. ثم قدّم نفسه وسيطاً لحل النزاع من خلال لقاءات مكوكية قام بها مع الرئيسين السادات وحافظ الأسد.

ويعتقد كثير من المراقبين أن الدور الذي لعبه كيسنجر في تسويات ما بعد حرب أكتوبر هو الذي فتح الطريق أمام زيارة السادات للقدس، واتفاقية كامب ديفيد للسلام بين البلدين التي تم التوصل إليها خلال ولاية جيمي كارتر.
كان كيسنجر حريصاً على حماية نفوذ أمريكا ومصالحها، لكنه لم ينكر في أي وقت مشاعره تجاه إرثِه اليهودي. ينقل المؤرخ نيل فيرغسون عن كيسنجر قوله: "من الصعب أن تكون جزءاً من شعب عانى ما عاناه اليهود على مدار ألف عام من دون أن يكون لديك إحساس قوي بهويتك، وإحساس بالواجب تجاه عقيدتك اليهودية".
رافق كيسنجر المحطات الكبرى من أحداث العالم بدءاً من منتصف القرن الماضي: من حرب فيتنام إلى القطيعة الأمريكية مع الصين، إلى الدور السوفيتي المتقدم في القارة الأفريقية، وسمحت قدراته الدبلوماسية بتحول تاريخي في كل منها.

لم يكن كيسنجر أيديولوجياً بل براغماتياً، ومن هنا كانت شعاراته التي لا تزال عناوين يعود إليها الدبلوماسيون: اعتماد نهج الخطوة خطوة لحل النزاعات، والدبلوماسية المكوكية، ومنح الخصم فرصة نصف نجاح بدل الهزيمة الكاملة.
بهذه السياسة تمكن كيسنجر من إقناع ريتشارد نيكسون بفتح صفحة جديدة من العلاقات مع الصين. وكانت الدبلوماسية التي عرفت بـ"دبلوماسية البينغ بونغ"، بعد دعوة وجهها ماو تسي تونغ إلى فريق أمريكي كان يشارك في مباراة لهذه اللعبة في اليابان في ربيع 1971، استغل كيسنجر فرصة توتر العلاقات الصينية السوفيتية في ذلك الوقت لفتح تلك الصفحة، التي عُدت أحدَ أهم إنجازات عهد ريتشارد نيكسون الذي قام بزيارته التاريخية لبكين ولقاء ماو في فبراير (شباط) 1972.

ولم يكن مفاجئاً أن تشير القيادة الصينية في تغطيتها لوفاة كيسنجر إلى أنه كان صديقاً للشعب الصيني. كان دور كيسنجر في إحياء تلك العلاقات نتيجة قناعته بأن المواجهة الأساسية للسياسة الخارجية الأمريكية يجب أن تكون مع الاتحاد السوفيتي، وهي القناعة التي هيمنت على التوجه لإنهاء التدخل الأمريكي في فيتنام الذي كان قد تحول في مطلع السبعينات إلى مصدر اضطرابات في الشوارع الأمريكية، مع ازدياد الحملات الداخلية والدولية ضد هذا التدخل والآثار الكارثية التي كانت تخلفها الغارات الأمريكية على هانوي وشمال فيتنام.

كيسنجر، الذي لم يكن معنياً كثيراً بأرقام الضحايا وبالدعوات إلى السلام، وجد في ذلك القصف فرصة للضغط على الجنوبيين للموافقة على إنهاء الحرب، متعهداً بأن أي خرق سيواجه بالقوة من واشنطن. غير أن هجوم قوات فيتنام الشمالية على سايغون في أبريل (نيسان) 1975 بعد عامين على انسحاب القوات الأمريكية لم يترك مجالاً لأي زعم بالانتصار. ولا تزال صورة السفير الأمريكي مغادراً على طائرة هليكوبتر من سطح سفارة بلاده في سايغون عالقة في الأذهان رمزاً للهزيمة الأمريكية في تلك الحرب، لكن كيسنجر ألقى اللوم في ذلك على الكونغرس لرفضه الاستمرار في تسليح قوات فيتنام الجنوبية.
ترك كيسنجر مقعده في وزارة الخارجية مع وصول كارتر إلى الرئاسة عام 1976، لكنه ظل مرجعاً لسياسيين ودبلوماسيين كثر. وحتى السنة الأخيرة من عمره المديد ظل متابعاً ومعلقاً على أحداث العالم بشغف وانشغال. غير أن رؤيته لحل النزاع العربي الإسرائيلي، لم تكن في أي وقت متوازنة أو عادلة. بل قامت على اعتماد الحلول الجزئية بدل الحل الشامل. وكان رأيه أن السلام سيتحقق عندما يستنفد العرب البدائل، ويعتادون وجود إسرائيل.