الموسيقي السوري نوري اسكندر
الموسيقي السوري نوري اسكندر
الثلاثاء 26 ديسمبر 2023 / 11:10

رحيل حارس الموسيقى السريانية نوري اسكندر

توفي يوم أمس في مغتربه القسري السويد، الباحث والموسيقي السوري نوري اسكندر (1938 – 2023)، وهو مؤلف وباحث متعمق في الموسيقى السورية القديمة والمعاصرة، درس جذور الموسيقى السورية، وساعده على ذلك إتقانه اللغة السريانية، وسعى من وراء أبحاثه إلى موسيقى جديدة بعيدة عن الانفعالات.

شغف بتداخل الأجناس

والموسيقي الراحل اسكندر من مواليد دير الزور عام 1938، درس الموسيقى في صغره على يد الموسيقي الروسي ميشيل بوزيرنكو.

وبعد نيله الشهادة الثانوية سافر إلى مصر، حيث درس في المعهد العالي للتربية الموسيقية في القاهرة عام 1959 وتخرج منه عام 1964.

وبعد عودته إلى سوريا درّس الموسيقى في ثانويات حلب، كما تولى إدارة المعهد العربي للموسيقى فيها بين عامي 1996و 2002.

عُرِف عن الباحث والموسيقي نوري اسكندر اشتغاله على الموسيقى الشرقية وبحثه عن جذورها وجمعها ونقلها من تراث شفوي، إلى مدونات، لاسيما ما يتعلق بالموسيقى السريانية "الكنسية أو المدنية"، التي تعود لكل من مدرسة الرها "أورفا" ومدرسة دير الزعفران، حيث قام بجمعها ضمن كتابين وفق نظام الكتابة الموسيقية الحديثة "التنويط"، وله أعمال مهمة بدا فيها شغوفاً بتحقيق تداخل الأجناس والعلاقة بين المقامات الشرقية والغربية.


أرشفة وإبداع

ويعود اهتمام الراحل بالموسيقى السريانية إلى فترة شبابه حيث كان شمّاساً في الكنيسة السريانية بحلب، وبعد تعرّفه عن كثب إلى كنوزها الموسيقية المجهولة، شُغف بالتراتيل الكنسية والألحان السريانية القديمة، فتوجّه إلى البحث فيها ودراستها وتدوينها.

كما يُعد أحد أعمدة الأغنية السريانية المعاصرة، فقد قدم اسكندر عمره في سبيل سبر أغوار الموسيقى السريانية السورية القديمة لتصل إلى أهم المسارح والدور العالمية برقيّها وروحانيتها، وبذل الكثير لأرشفة الأغنية السريانية الكنسية للحفاظ عليها من الضياع، وساهم في إبداع وخلق أغنية سريانية شعبية مُعاصرة أصيلة ضمن قوالبها السريانية الأم، وجمعها ونقلها من تراث شفوي معرض للضياع، إلى مدونات يمكن أن تعطي فكرة واضحة عن التطورات التي مرت بها في مختلف العصور. حيث قدم العديد من الدراسات والأعمال الموسيقية والأبحاث في الألحان السريانية التي قام بتدوينها بالنوطة لأول مرة ضمن كتابين وفق نظام الكتابة الموسيقية الحديثة "التنويط".


تعددية الأصوات

لكل تجربة إبداعية بداية فكانت التجربة الإبداعية للراحل اسكندر، حين شعر بضرورة العمل لخلق أساليب لحنية جديدة مغايرة للأساليب الشائعة، المتمثلة بالتراث الموسيقي، يبني فيها تصوراته في التطوير ذاتياً بالاستناد إلى علوم التأليف الموسيقي، وتطويعِها في تعدديّة الأصوات على الدرجات النغمية الشرقية، بمعنى ما يُعرف بـ "ربع الصوت"، التي تستند عليها ألحاننا السريانية بشكل أساس.

وهكذا كان الأمر معه في هذه المسيرة، بدءاً بألحان مستقاة من الفولكلور السرياني، فكتب فيها أعمالاً جميلة، من بينها "أو حبيبو حبيبو" و "زيلقي فرسي" و"لوتيحفوخ"، وغيرها.

وشارك في عام 1973 في أول مهرجان تخصصي للموسيقى السريانية، وأقيم في القاعة الكبرى لقصر اليونسكو في بيروت، بتقديم عدد من مؤلفاته في موسيقى الفولكور السرياني لكنها مبنية بأساليبه الحديثة والمكتسبة للطابع الثقافي.

وكتب نوري إسكندر الكثير من الأعمال الموسيقية المستقاة من مثل هذه الأعمال الفولكلورية، والتي كان في مقدمتها "برقانا – الخلاص" بشكل أوبريت سرياني. وعمل موسيقي آخر للكمان المنفرد بمصاحبة خماسي الآلات الوترية (2)، وآخر لثلاثي العود والوتريات (3)، وأعمال أخرى للأفلام السينمائية. إضافةً إلى المناهج التعليمية للدراسات الموسيقية.

 

احتكار الموسيقى السريانية

والموسيقى السريانية من وجهة نظر الراحل اسكندر كما قال: بقيت حبيسة في جدران الكنائس، لأكثر من 18 أو 18 قرناً، رغم أنه كانت هناك ألحان شعبية ومدنية، أخذوها وركبوا عليها كلاماً دينياً، أي احتكروها وأبقوها بين جدران الكنائس للصلوات والطقوس، ليس ذلك وحسب، بل إن رجال الدين منعوا الناس من أن يغنون ألحاناً مدنية، تحوي الغزل والعواطف باللغة السريانية، لأنها تعتبر مقدسة لأنها اللغة التي تكلم بها المسيح، ولا يجوز الغناء بها أغاني غزلية، ومن فوائد هذه العملية بأنهم حافظوا على الموسيقا السريانية السورية القديمة نتيجة للتقديس الزائد، وهذه الموسيقى مع مرور الزمن ونتيجة انتقالها مشافهة طرأت عليها بعض التغييرات دون شك، لكن في نهاية المطاف يوجد 60% - 70% منها في المجموعات التي في الكنائس السريانية بتعدد طوائفها، وكانت هذه الألحان لها علاقة بكل مناحي الحياة وعلى مدار العام، يوجد هناك حوالي 900 لحن والباقي لم ينوط بعد، وهناك أعداداً كبيرة من الألحان انتشرت في بيئات اجتماعية مختلفة ومنتشرة، مجتمعات لها علاقة بالمنطقة وصار فيها مجموعة مدارس، ومن أهمها مدرسة "الرها"، ومدرسة "دير الزعفران" وتوابعها، وتأتي بعدها المدرسة "الموصلية" العراقية، ومدرسة "صدد" الموجودة بالقرب من مدينة "حمص"، ولم يحالفني الحظ في دراسة كل المدارس، وإنما عملت على مدرستين فقط.

 

شرنقة التقليدية

ومن آرائه في حوار سابق معه حول دور الموسيقى بشكل عام في حياة الإنسان، قال اسكندر: "الموسيقى لها دور مهم في شحن وتجميع طاقات الإنسان في الحالة الاجتماعية العامة والفردية، ونحن في وطننا العربي نحتاجها بعد الاحباطات السياسية والنكسات التي مُنينا بها، نقف في مكاننا نتساءل ونستجمع همتنا وقوتنا حتى لا ننسحق ونتابع الحفاظ على وجودنا وهويتنا. لأجل هذه الأسئلة والأمور الصعبة التي نعاني منها، المفروض من الموسيقى أن تلعب دوراً مهماً إلى جانب بقية الفنون، ومن هنا نحن بحاجة إلى أغنيات وإلى موسيقى من نوع جديد، تحرك ما في أعماقنا وتخلصنا من شرنقة الموسيقى التقليدية التراثية التي تسير معنا بأسلوب استلابي تسلبنا من قضايانا العامة، وأشير إلى المعنيين بإنتاج الأغنية – مؤسسات إعلامية أم شركات إنتاج – جميعها مقصرة تجاه الأغنيات والموسيقى الآلية الجادة التي يمكن لها أن تلعب دوراً هاماً في تجميع طاقات المجتمع العربي. ومع الأسف لا يوجد لا ندوة أو أي مؤتمر يعقد للبحث عن فكرة الموسيقى الجديدة وهمومنا المستقبلية، إذ أن كل ما عُقد حتى الآن تكرر فيه الحديث حول الموسيقى التراثية وتكريسها وربطها بالفكر القومي والاتجاه الواحد في الموسيقى العربية، هذه الأمور السلبية تتكرر إعادتها والحديث عنها. ومع الأسف معظم المهرجانات التي ناقشت هذا النوع الذي نسعى إليه كانت بعناوين شكلانية فلم تحقق فائدة عميقة".

 

أهم الأعمال

قدم في بيروت عام 1974 حفلة اليونيسكو، تضمنت أغاني شعبية سريانية، شارك فيها الفنان اللبناني الكبير وديع الصافي: بين 1986- 1989 تجارب الثلاثي الوتري، وكونشرتو لآلة العود مع أوركسترا الحجرة، وكونشرتو لآلة التشيللو (Cello) مع أوركسترا الحجرة، وتأليف وتلحين قصيدة خطامة للكورال وأوركسترا الحجرة للشاعر حسين حمزة، وفي 1986 كنز الألحان بيث كازو̣(بالسريانية:ܒܝܬ ܓܙܐ)، وفي 1989 مجموعة حفلات بالسويد، وبين 1989- 1990 أسس في السويد الكورال السرياني تم تسجيل أغان سريانية.

وفي 1995 قدم في العديد من العواصم الأوربية (باريس، بروكسل، جنيف) مع فرقته الكورال السرياني قوقويه (ܩܘܩܝܐ)، وفي 2002 قام بتأليف موسيقى للمسرحية اليونانية "باخوسيات"، لمؤلفها اليوناني يوريبيدس عام 400 سنة قبل الميلاد.

وتم تقديم هذه المسرحية الغنائية بالاشتراك مع الفرقة المسرحية الهولندية Z. T. Hollandia، في مهرجانات صيف عام 2002 في بروكسل، فيينا، كولن، أثينا، وأمستردام لاقت استحساناً، حيث قام بإدخال لألحان سريانية "الحاشو" (ܚܐܫܐ) وبعض من مؤلفاته.

وفي 2007 قام بتأليف "يا واهب الحب" مدخل إلى الصوفية، كما يُذكر أن أهم حفلتين أحياهما الراحل في سوريا كانتا على مسرح دار الأوبرا ضمن احتفالية دمشق عاصمة ثقافة عربية عام 2008.