الأحد 8 يونيو 2014 / 20:14

لسان السلطة وألسنة المواطنين


تقول النكتة إن قساً ظهرت عليه علامات الثراء، فجاء إليه شيخ وسأله: "يا أبانا، من أين كل هذا؟" فكر القس قليلاً ثم قرر أن ينصح: "يا عم الشيخ، هذه أموال العطايا والحسنات، أجمعها من شعبي، أرميها في الهواء ثم أنتظر أن تسقط على الأرض، فما نزل عن يميني فهو لله أوزعه على السائلين، وما نزل عن يساري فهو لي أحتفظ به لنفسي".

وما هي إلا أسابيع قليلة وظهرت على الشيخ مظاهر ثراء أكبر. فجاء له القس متعجباً: "يا فضيلة الشيخ، سألتني النصيحة فأعطيتك، لكنك سبقتني، والآن دوري لكي أسألك النصيحة كما سألتني. من أين يا فضيلة الشيخ كل هذا الخير؟ من أين؟".

فقال له الشيخ: "هذه أموال الهبات والعطايا، أجمعها من شعبي، وأرميها إلى أعلى، فما صعد منها إلى السماء فهو لله أوزعه على السائلين، وما سقط منها على الأرض فهو لي، أحتفظ به لنفسي".

يروى أن حاكماً ظهرت عليه علامات الاستبداد، فجاء إليه رجل دين وسأله، من أين لك كل هذا الاستبداد؟.

لكي تنكسر هذه الحلقة، الانتقال من السلطة الشبيهة بقس النكتة، إلى السلطة الشبيهة بشيخ النكتة، ثم العودة إلى السلطة الشبيهة بقس النكتة، لكي تنكسر هذه الحلقة لا بد أن نتعلم - حقيقة - الدرس.

والدرس أن ثقافة الشعب تنتج سلطته. وأننا إن ارتضينا قواعد اللعبة، بالاحتكام إلى الانتخاب، علينا أن نتوقع خيارات لا تخرج عن حدود هذه الثقافة. شعب تحت قيادة شعارات "مقدسة" لا بد أن يبحث عن من يريحه من عناء دراسة الخيارات، ومقارنتها، وتجربتها. شعب تحت قيادة شعارات المؤامرة الكونية التي نتعرض لها، لا بد أن يحب كل من يبيعه شعارات الوطنية و"والنبي لنكيد العزال".

إنْ نص دستور على أن ديناً معيناً هو مصدر التشريع، فها هي التشريعات أرسلت إلى السماء. وسوف تقع على الأرض في أيدي الحكام. وإن كان مسموحاً أن يؤيد أناس حاكماً أو يعارضونه باسم الله، أو بالتعبير المعاصر أن تُنشأَ الأحزاب على أساس ديني، فسوف يظل بمقدور كل قوة سياسية تمتلك خطابا دينيا أن تساوم بها، مدعية أنها تتحدث باسم الله. إن نشر المثقفون ثقافة تحقير الحضارة البشرية ومنتجاتها فلا عجب أن يختار الشعب منغلقين ممجدين لذواتهم.

كيف نستطيع أن نكسر هذه الحلقة؟ ليس من سبيل إلا واحد، بالكلمة الحرة. الكلمة الحرة ليست رفاهية. الكلمة الحرة هي الأمل الوحيد في صنع ثقافة مختلفة، تنتج نخبة مختلفة، في السلطة والمعارضة. الكلمة الحرة لا تضمن أبداً أن يكون كل ما يقال مفيداً، لكنها تضمن أن يجد الكلام المفيد طريقاً إلى الناس، يحميه القانون.

إن كان مسموحاً أن يحتكر حاكم الكلمة، فيوجهها حيث يريد وكيف يريد، فلن يكون عجيباً أن يعيد الشعب إنتاج نفس السلطة، ولو بصندوق اقتراع. النوايا الدفينة للسلطة يكشفها لسانها، إعلامها الرسمي، وتكشفها قوانينها التي تحاسب المواطنين على ما تتفوه به ألسنتهم.