علّق الكاتب السياسي كليفورد ماي، في مقاله ضمن صحيفة "واشنطن تايمس" على تطور قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الانسحاب من سوريا خلال شهرين. في أواخر السنة الماضية، أعلن ترامب بعجلة ومن دون وجود خطة، نيته بسحب جميع قواته من سوريا. حتى ذلك الوقت، قدّم حوالي 2000 عنصر خاص مثالاً حول اقتصاد القوة. أنجزت واشنطن الكثير عبر القليل من الجنود فمكّنت الحلفاء المحليين من قتال داعش بشكل أكثر فاعلية مما لو فعلوا ذلك وحدهم كما ساعدوا في احتواء إيران.

هنالك مجموعات هامة من اليسار واليمين مصرة على ألا تكون أمريكا شرطي العالم. لكن إن لم تكن واشنطن كذلك، فلن تتولى الدانمارك أو اليابان أو كوستاريكا هذه المهمة. والأمم المتحدة ليست على مستوى هذه المهمة
بدا لكليفورد وآخرين، من بينهم المستشارون البارزون المقربون من ترامب، أنّه ارتكب خطأ تلقائياً بارزاً أمكن أن يشجع خصوم أمريكا في الشرق الأوسط وأبعد، مثل بيونغ يانغ وموسكو وبيجينغ وقندهار. لكن يوم الجمعة الماضي، غيّر الرئيس رأيه وقرر ترك 400 جندي في سوريا. إنّ قوة بهذا الحجم لا تستطيع إنجاز المهمة الموكلة إليها. لكنّ بعض الحلفاء الأوروبيين الذين انتقدوا ترامب بشكل حاد على خطوته الأساسية يدرسون الآن الالتزام بنشر المزيد من قواتهم لتعويض الفرق. بعبارة أخرى، قد ينجح بدفع الأوروبيين إلى تقاسم الأعباء بشكل جدي في نزاع بعيد عن نهايته.

إذا كان ذلك صحيحاً، فإنّ الفضل يرجع إلى السيناتور ليندسي غراهام الذي ضغط كثيراً للوصول إلى هكذا خطة، أكان مع الرئيس في المجالس الخاصة أو في مؤتمر ميونخ للأمن. سارع غراهام للإشادة بترامب لأنّه "اتبع نصيحة عسكرية سديدة"، وبذلك "ضمن ألا نكرر أخطاء العراق، في سوريا. بجزء صغير من القوات التي كانت لدينا في سوريا، نستطيع إنجاز أهداف أمننا القومي. أحسنت سيدي الرئيس".

الانعزاليون من اليمين واليسار مخطؤون
يطرح ما جرى مسألة استراتيجية واسعة. هنالك مجموعات هامة من اليسار واليمين مصرة على ألا تكون أمريكا شرطي العالم. لكن إن لم تكن واشنطن كذلك، فلن تتولى الدانمارك أو اليابان أو كوستاريكا هذه المهمة. والأمم المتحدة ليست على مستوى هذه المهمة ولن تكون أبداً. إن لم يقف أحد بوجه العصابات الدولية، يعلم الجميع ما سيحصل: الاستيلاء على دولة تلو دولة ومنطقة تلو منطقة.

يتابع ماي فيكتب أنّ الانعزاليين من اليمين يطالبون بعدم التدخل طالما أنّ ذلك بعيد عن حدود الولايات المتحدة. سيظهر أولاً أنهم على حق حتى يتبين أنهم مخطئون بشكل كارثي كما كانوا في ثلاثينات القرن الماضي حين قالوا إنّ على واشنطن عدم فعل أي شيء لوقف تقدم النازيين واليابانيين الإمبرياليين. يوافقهم في ذلك الانعزاليون من اليسار لكن لسبب مغاير إذ يرون الولايات المتحدة بلد على المستوى نفسه من القمع وهم بشكل عجيب غير قلقين بما يفعله الشيوعيون الصينيون بالأويغور ولا بما فعله الاشتراكيون البوليفاريون بفنزويلا ولا بما فعله الثيوقراطيون في طهران بالسوريين واللبنانيين واليمنيين والعراقيين.

مسار ثالث
يوضح ماي أنه لا يدافع عن ضرورة أن تكون الولايات المتحدة شرطي العالم. لكنه يشير إلى أنّه بين التدخلية والانعزالية هنالك مسار ثالث. ويتساءل: "ماذا لو لم ترَ الولايات المتحدة نفسها كشرطي بل عوضاً عن ذلك كشريف". على عكس الشرطي لا يُتوقع من رجل القانون في الغرب الأمريكي الموحش أن ينفذ الاعتقالات عند حصول أي اعتداء. لكنّه سيعين نواباً له كي يوقفوا أسوأ الخارجين عن القانون من أن يمارسوا تنمرهم في منطقة معينة.

هذا المفهوم ليس جديداً. عام 1997 حين كانت غالبية الناس تظنّ أنّ روسيا ذاهبة باتجاه الديمقراطية والصين باتجاه العدالة، وحين كانت كلمة جهاد بالكاد مسموعاً بها، كتب الباحث والديبلوماسي ريتشارد هاس كتاباً بعنوان: "العريف المتردد: الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة". أشار هاس إلى أنّ لدى الشرطي "درجة أعظم من السلطة، وإمكانية أكبر على العمل منفرداً وحاجة أكبر للتصرف بتناسق مما يتم الدفاع عنه هنا. على النقيض من ذلك، على العريف أن يفهم افتقاره للسلطة الواضحة في العديد من الحالات، والأهم الحاجة للتمييز في وقت وكيفية انخراطه".

على أوروبا تذخير مسدسها أيضاً
إذا كان تحرك العريف خاضعاً لاختلاف الأوضاع والأهداف وحتى الصلاحيات، فإنّ متطلبات القيادة الأمريكية ومشاركة الحلفاء الذين يريدون المساهمة في المهمة هي التي ستكون ثابتة وفقاً لهاس.
أوضح هاس الذي أصبح رئيس مؤسسة الرأي "ذا ناشونال إنترست" لماي وهو أيضاً رئيس "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات"، ضرورة أن تؤدي الولايات المتحدة دور العريف لأنّ العالم لا ينظم نفسه ولأن لا وجود لمرشح آخر يتمتع بالقدرة لذلك. وأضاف أنّ ما يبدو ترامب غير مدرك له هو أنّ منافع تأدية واشنطن لهذا الدور تفوق كلفته، في حين أن الكلفة ستكون كبيرة إذا لم تلعب هذا الدور. لكنّ ماي يعتقد أنّ رؤية ترامب تتطور مع تحفيز السيناتور غراهام ورجال حكماء آخرين. كذلك، شدد ماي على ضرورة اعتراف الأوروبيين بأنه عليهم تذخير مسدساتهم والانضمام إلى "العريف". فبديل ذلك سيكون بقاؤهم وحيدين وهم يشاهدون العريف يغادر باتجاه مغرب الشمس.