في مقال نشرته صحيفة "جيروزاليم بوست"، بيّن المدير التنفيذي لمركز الشرق الأوسط لإعداد التقارير والتحليلات سيث فرانتزمان كيف أخطأت إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب بالإصغاء إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في السياسة السورية. فقد أقنعها الأخير بأن بلاده تقف في وجه إيران وروسيا لكنه انتهى بتعزيز دوريهما في المنطقة. غير أن الشيك على بياض الذي حصل عليه أردوغان في السنوات الماضية يوشك أن يتغير مع الإدارة الجديدة.

بالنسبة إلى الموفدين الأمريكيين للشؤون السورية والذين كانوا يقوضون القيادة المركزية، فتبدو حقبتهم مشارفة على الانتهاء. المسؤولون الذين تبجحوا بإخفاء عدد القوات الأمريكية عن البيت الأبيض، أو الذين تحدثوا بلغة أمام أنقرة، وبلغة ثانية أمام قسد، وبثالثة في البيت الأبيض، فقد يتوقفون عن ذلك
حين فاز ترامب بالانتخابات سنة 2016، رأى أردوغان في انعزالية الرئيس الأمريكي وسيلة من أجل تحقيق غاية، وهي البدء بالحملات العسكرية الشاملة والاعتداءات والتطهير العرقي للمعارضين في سوريا والمنطقة. اليوم، يمكن أن تكون الأمور في طريقها إلى التغيير. يغادر مسؤولون أمريكيون مثل جايمس جيفري وجويل رايبورن مناصبهم في وزارة الخارجية. إعتمد أردوغان على وصول غير مقيد إلى إدارة ترامب. إلا أن السياسات تتغير حالياً في واشنطن، مع مغادرة حلفاء تركيا الذين عززوا تسلطها وعدوانيتها. تخشى تركيا من أن الرئيس المقبل جو بايدن وفريقه لن يتلقيا الأوامر من أنقرة ولن يرحبا بتهديداته. لذلك، أوقفت تركيا سلوكها العدواني منذ أن علمت بفوز بايدن.

دولة تسلطية
طوال سنوات، تابع فرانتزمان، إبتعدت تركيا عن اهتمامها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فأصبحت دولة أكثر تسلطية. أنقرة هي اليوم أكبر سجّان للصحافيين. حتى 2016، كانت متحفظة تجاه استخدام القوة، مفضلة عدم جمع الأعداء من حولها. بعدها تغير كل ذلك. سعى الحاكم التركي إلى الحصول على صلاحيات مطلقة معتقلاً الصحافيين المعارضين وساعياً إلى قلب النتائج الانتخابية التي مكنت حزب الشعوب الديموقراطي من الوصول إلى البرلمان وعدد من البلديات. ستكون إدارة ترامب أساسية لدولة تركية من دون ضوابط.

غير مسبوق
شغّلت تركيا مجموعات الضغط التابعة لها في واشنطن وعملت مع شخصيات أساسية في مؤسسات الرأي وأصدقاء يمينيين حتى حصل أردوغان على دعوة لزيارة واشنطن في مايو (أيار) 2017. شعر أردوغان بفائض من القوة حتى أرسل حراسه الأمنيين لمهاجمة متظاهرين أمريكيين بالقرب من مقر إقامة السفير التركي. كان ذلك غير مسبوق في التاريخ الأمريكي وتم إسقاط تهم الاعتداء ضدهم. جاء الاعتداء ضد المتظاهرين بينما كانت تركيا تقيل مئات الآلاف من الموظفين المدنيين بناء على تهم بـ"الإرهاب" و"التخطيط للانقلاب". وفي واشنطن، نشر أصدقاء أنقرة قصصاً عن "الدولة العميقة" مستخدمين التعبير التركي نفسه قائلين إنها تسعى إلى تقويض ترامب. في الوقت نفسه، أعطى استفتاء دستوري الرئاسة التركية المزيد من الصلاحيات.

تجنيد مرتزقة وتطهير عرقي
أضاف فرانتزمان أن أنقرة سعت بداية للوصول بطريقة فورية إلى ترامب عبر مستشاره الأسبق لشؤون الأمن القومي مايكل فلين، ولاحقاً بطريقة مباشرة. سيكشف المستشار اللاحق جون بولتون كيف تلقت إدارة ترامب الأوامر المباشرة من نظام أردوغان بما فيها محاولة لإغلاق قضية مساعدة بنك خلق التركي الإيرانيين على الالتفاف حول العقوبات. في يناير (كانون الثاني) 2018، جنّدت تركيا مرتزقة سوريين لمحاربة الأكراد. كان هدفها إنهاء الثورة ضد الرئيس السوري بشار الأسد عبر استمالة من زعمت أنقرة أنهم "إرهابيون" في سوريا. لم يكن هنالك إرهابيون في منطقة عفرين التي مارست فيها تركيا تطهيراً عرقياً بحق الأكراد. أقيلت النساء من مناصبهن الحكومية تحت الاحتلال التركي واخطفت كثيرات منهن إلى سجون سورية يديرها حلفاء تركيا المتطرفون.

أنقرة تتعامل مع داعش
شكّل تدمير عفرين الخطوة الأولى. شعرت تركيا بأن الإدارة الأمريكية كانت متعاطفة معها إلى درجة استعدادها للتخلي عن شركائها في سوريا، قوات سوريا الديموقراطية (قسد). أمرت تركيا الإدارة بالانسحاب. لم يحدث في التاريخ أن هدد حليف أطلسي الولايات المتحدة أو قصف شركاءها. كي تروج لسياستها الخارجية في دوائر العاصمة، فهمت تركيا أن الأصوات اليمينية كانت ضد إيران وضد سياسات أوباما. باعت تركيا هجومها على الأكراد بصفته إنهاء لسياسات أوباما. لكن في تلك الأثناء، كانت تركيا تعمل مع طهران وموسكو عبر شراء منظومة أس-400 الروسية وعبر السعي إلى عقد اتفاق مع إيران في سوريا كي تعزل أمريكا وشركاءها.

في واشنطن، زعم اللوبي التركي أن أنقرة كانت حصناً ضد روسيا وإيران. أما حين كانت تتحدث مع ترامب، حملت تركيا رسالة مختلفة: ستوفّر البلاد الأموال على الولايات المتحدة من خلال توليها مهمة ضرب داعش. لكنّ فرانتزمان يذكّر بأن النظام التركي هو من كان يتعامل مع داعش من خلال نقل مقاتليه عبر تركيا إلى إدلب حيث كان المتطرفون المدعومون من أنقرة يتحركون.

تهجير وتقطيع رؤوس
إنتهت السياسة التركية في سوريا بتمكن موسكو وطهران ودمشق من كسب بعض المناطق. مع ذلك، كانت تركيا قد باعت سياستها من خلال الادعاء بأنها إنهاء لسياسة أوباما ومواجهة إيران. عوضاً عن ذلك، إنسحب الجنود الأمريكيون من المنطقة وتم قتل مدنيين أكراد على يد تركيا. واصلت تركيا تهديداتها في 2020. إستضافت أنقرة قادة حماس الإرهابيين مرتين على السجاد الأحمر كما لو كانوا رؤساء دولة أجنبية. وطردت 60 عمدة من حزب الشعوب الديموقراطي من مدنهم وحكمت بالسجن على صحافيين لمدة عقود.

وهددت تركيا اليونان مستخدمة اللاجئين ضدها بينما ضايقت السفن اليونانية ثم أرسلت سوريين للقتال في ليبيا في خرق للعقوبات. ودفعت أذربيجان إلى مهاجمة الأرمن في ناغورنو قره باخ. هجّرت سياسة تركيا الخارجية 300 ألف شخص في سوريا وعشرات الآلاف من الأرمن في إقليم ناغورنو قره باخ. لقد قُتل الأرمن والأكراد وقُطعت رؤوسهم وخُطفوا. وغذت أنقرة الهجمات الإرهابية في فرنسا وشبهت إسرائيل بألمانيا النازية. معظم التسلط التركي جاء نتيجة للدعم الأمريكي.

كيف خدعوا قسد؟
في الوقت نفسه، تابع فرانتزمان، وضع المسؤولون السياسيون الموالون لأنقرة في وزارة الخارجية استراتيجية تهدف إلى تمكين تركيا من التحكم بالسياسة في سوريا. ويملك هؤلاء تفكيراً يعود إلى زمن الحرب الباردة ويقوم على الاعتقاد بأن تركيا تشكل توازناً في مواجهة روسيا على الرغم من أن أنقرة كانت تتحالف بشكل متزايد مع موسكو وطهران في سوريا. الأقلية الكردية المسالمة هي مصدر إزعاج بحسب تقييمهم.

ولتدمير قسد، كان على هؤلاء المسؤولين تهميش دور الجيش والقيادة المركزية. ثم قالوا لقسد أن تعمل مع دمشق لأن ليس لديها مستقبل في سوريا ولأن الدور الأمريكي هناك مؤقت. عملت قسد بهذه النصيحة. أعطى ذلك فرصة للمسؤولين الأمريكيين العاملين في وزارة الخارجية كي يزعموا بأن قسد تعمل مع الأسد وإيران. أصبح بإمكانهم تهيئة الأرضية لتوغل تركي في سوريا وسحب جنودهم من شرق سوريا. قبِل البيت الأبيض بمنطق أنقرة. لكن هدفها الحقيقي كان تدمير قسد.

الخداع الثاني
في صيف 2019، كبرت تهديدات تركيا وتم إبلاغ القيادة المركزية بضرورة دفع قسد إلى طمأنة تركيا بأنها لن تواجه تهديدات من سوريا. قبِلت قسد وفككت مواقعها العسكرية بالقرب من الحدود. لكن ما لم تعلمه القيادة المركزية هو وجود مسؤولين في وزارة الخارجية والبيت الأبيض يعملون مع أنقرة تحضيراً لاجتياح سوريا. ذكر فرانتزمان أنه تم خداع القيادة المركزية وقسد عبر دفعهما إلى الاعتقاد بأن مجرد إزالة بعض التحصينات سيعزز الثقة مع تركيا. اتصل أردوغان بنظيره الأمريكي في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 وأمرت الولايات المتحدة القيادة المركزية بإعادة الانتشار كي تسمح لتركيا بالهجوم. هرب 200 ألف كردي بسبب الاعتداء التركي. أنجز مسؤولون موالون لتركيا ومقربون من ترامب هذه المهمة. تم دفع قسد إلى أيدي موسكو ودمشق وأعطيت تركيا مناطق في سوريا. لكن لم ينجح الأمر تماماً بسبب غضب الكونغرس من طريقة تهديد أنقرة لواشنطن.

اصطفاف مع عدوتها ضد شريكها
بعد تقويض السياسة الأمريكية في سوريا سنة 2019، أمضت واشنطن معظم 2020 تحاول تقييد تركيا عن مزيد من الهجمات ضد الشركاء الأمريكيين، حين أصبح واضحاً أن هدف تركيا الحقيقي عقد اتفاق مع روسيا والنظام السوري وإيران لتقاسم المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة الأميركية. إن التطهير العرقي للمسيحيين من الأراضي التي سيطرت عليها تركيا داخل سوريا لم يلقَ صدى إيجابياً لدى أولئك الذين يؤمنون بدعم الحرية الدينية في سوريا. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الاعتداءات التي طالت النساء. بدت الولايات المتحدة تصطف إلى جانب أنقرة المناهضة لأمريكا، وضد قسد، شريكة أمريكا في سوريا.

هذا ما يحصل حين تُسلّم إدارة النزاعات لأنقرة
واصل المسؤولون الأمريكيون المعنيون بالتعامل مع السياسة السورية إثارة مواجهة بين تركيا وروسيا في إدلب آملين أن تصح نظريتهم بشأن تصدي أنقرة لموسكو. عوضاً عن ذلك وقّع الطرفان اتفاقات بينما حصلت دمشق على المزيد من الأراضي وتدفقت أنظمة أس-400 إلى تركيا. من جهة ثانية، دفعت تركيا أذربيجان إلى الحرب وشجعت مقالات رأي في العاصمة الأمريكية حول أن الحرب على الأرمن ترتبط بمواجهة روسيا. وانتهت النتيجة كما في سوريا: تركيا تتعاون مع روسيا وإيران في القوقاز بينما تدخلت القوات الروسية لحفظ السلام. تعزز الموقف الروسي وذهب قادة أذربيجان وأرمينيا إلى موسكو لا إلى واشنطن. في سوريا وليبيا والقوقاز تعمل أنقرة مع موسكو فيما يتعرض الدور الأمريكي في هذه النزاعات للتهميش، لأن الولايات المتحدة حولت إدارة النزاعات إلى أنقرة.

قد ينقلب الوضع رأساً على عقب

أضاف فرانتزمان أن النظام التركي يشعر بنهاية الشيك الموقع على بياض. لم يعد بإمكانه استخدام الأصوات اليمينية لترويج سردية أنه "مناهض لإيران" في الإدارة الجديدة. باتت ورقته الوحيدة هي التصالح مع اليونان وفرنسا وإسرائيل والأطراف المستعدة كي تصغي له.

بالنسبة إلى 350 ألف شخص هجّرهم الاجتياح التركي من منازلهم وبالنسبة إلى حوالي 200 ألف شخص أقيلوا من منصبهم في تركيا وإلى الصحافيين السجناء مثل جان دوندار الذين حوكموا وأجبروا على مغادرة البلاد، وبالنسبة إلى النساء الكرديات اللواتي طُردن واستُبدلن بمتطرفين وبالنسبة إلى السياسيين الذين دخلوا السجن بسبب تهم ملفقة ترتبط بـ"الإرهاب"، كانت السنوات الأخيرة عبارة عن كابوس.

أما بالنسبة إلى الموفدين الأمريكيين للشؤون السورية والذين كانوا يقوضون القيادة المركزية، فتبدو حقبتهم مشارفة على الانتهاء. المسؤولون الذين تبجحوا بإخفاء عدد القوات الأمريكية عن البيت الأبيض، أو الذين تحدثوا بلغة أمام أنقرة، وبلغة ثانية أمام قسد، وبثالثة في البيت الأبيض، فقد يتوقفون عن ذلك. تتبقى مراقبة ما إذا كانت الإدارة الجديدة قادرة على ابتكار سياسة سورية متناسقة.