كانت سارة وسام وزوجها من ميسوري الحال قبل أن يؤدي انهيار العملة المحلية إلى تآكل قيمة راتبيهما ويدفعهما نحو الفقر.

وأصبحت معاناة الزوجين المقيمين في بيروت شائعة في مختلف أرجاء لبنان بين أفراد الطبقة المتوسطة التي أُجبرت على مواجهة خيارات ما كانت ترد على الخاطر بعد تدهور الأوضاع والأزمة الاقتصادية.

وقالت سارة المُعلمة، وهي أم لثلاثة أبناء: "كنا سابقاً نخلص الشهر نحن والراتب سويا، الآن الراتب لا يكفي مشوار واحد على السوبر ماركت لشراء الحاجات الضرورية من زيت، وسكر، ورز، وغير ذلك".

وتصف سارة كيف أصبحت نادراً ما تشتري اللحوم، وكيف تخفض استهلاك الأسرة من الأجبان، وتختار بعناية أقل كميات منها لأطفالها الصغار.

وأضافت "كانت حياتنا عادية في السابق وكنا نستطيع أن نشتري أشياء لأولادنا إذا طلبوا، وكنت أشتري أغراض لبيتي من أثاث وغيره بالتقسيط، الآن الوضع اختلف كليا، صرنا نتحسر على تلك الأيام، الراتب لا يساوي شيئا".

ويتقاضى أيمن حداد، 28 عاماً، خريج الجامعة الذي وجد عملا في أحد المتاجر، ما يعادل 125 دولاراً شهرياً، ويريد اللحاق بأصدقائه الذين هاجروا. وقدم بالفعل طلباً للهجرة إلى كندا، ويقول: "خلص من سنة للآن فقدنا الأمل وصار الحل الوحيد هو الإقامة خارج لبنان".

وبدأ الانهيار المالي في لبنان في 2019 نتيجة إدارة سيئة للإنفاق ببذخ ما راكم الديون، إضافة إلى الشلل السياسي وسط خلافات بين الفصائل المتناحرة وإحجام المقرضين الأجانب عن إنقاذ البلاد ما لم تنفذ إصلاحات.

ويصنف البنك الدولي الأزمة ضمن أسوأ الأزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، إذ دمرت بلداً كان يُنظر إليه باعتباره واحة ثرية وليبرالية في الشرق الأوسط قبل اندلاع الحرب الأهلية بين 1975 و1990.

وأصبح نحو 80% من السكان البالغ عددهم 6.5 ملايين نسمة يعتبرون فقراء، وفي سبتمبر(أيلول) كان لدى نصف الأسر طفل على الأقل فقد وجبة، وفقا لبيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة، يونيسيف مقارنة مع ثلث الأسر في أبريل (نيسان).

وفقدت العملة أكثر من 90% من قيمتها ومنعت البنوك المودعين من سحب أموالهم.

وتشير بعض التقديرات إلى أن الدين الحكومي بلغ 495% من الناتج المحلي الإجمالي في 2021، أي أعلى بكثير من المستويات التي شلت اقتصادات بعض الدول الأوروبية قبل 10 أعوام.

وزاد الإحباط بعد فشل الحكومة حتى الآن في علاج المشاكل.

وقادت حكومة تصريف أعمال لبنان، ومنذ استقالة الحكومة بعد انفجار مدمر في مرفأ بيروت في 2020 يتصارع الساسة على هوية من يقود التحقيق لتحديد المسؤول عن الانفجار.

ومن ناحية أخرى يرى السكان دلائل على انهيار اجتماعي واقتصادي. فأغلقت شبكة الاتصالات الحكومية خدمة الإنترنت في أجزاء من بيروت، بسبب نقص الوقود في الأيام القليلة الماضية، واحتجز رجل رهائن في بنك مطالباً بسحب أمواله المودعة.

البراد فارغ
كانت شبكة الكهرباء الوطنية تتداعى قبل الأزمة، فتنقطع الكهرباء لفترات في مختلف أرجاء البلاد. والآن لم تعد الحكومة المفلسة تقوى على تشغيل محطاتها للكهرباء بشكل كاف وعادة لا تحصل المنازل على أكثر من ساعة يومياً من كهرباء الحكومة.

وتقول يولا المسن التي تدير سوبر ماركت في بيروت إنها تستخدم الكهرباء من مولد مشترك للحي لتبقي على إنارة منزلها.

وعندما تأتي كهرباء الحكومة تسارع لتشغيل غسالة الملابس إذ يكون التيار كافياً لذلك.

أما سارة المُدرسة فأصبح من الصعب عليها وضع ما يكفي من الطعام على الطاولة لأسرتها رغم أنها وزوجها يعملان براتب ثابت.

فقبل الأزمة كانت سارة وزوجها معا يتقاضيان 3 ملايين ليرة لبنانية شهرياً وهو ما كان يعني ألفي دولار تقريباً حسب سعر الصرف في ذلك الوقت البالغ 1500 ليرة للدولار.

والآن أصبحت قيمة دخليهما معاً لا تتجاوز 140 دولاراً حتى بعد زيادة متواضعة في راتب سارة. فقد انخفض سعر الليرة إلى 25 ألف ليرة للدولار ما دفع أسعار المنتجات المستوردة والمحلية إلى عنان السماء.

وقالت سارة، مكررة انتقادات محلية ودولية لأسلوب إدارة الأزمة: "الزعماء اللبنانيين يرفهون عن أنفسهم بتوجيه الإهانات لبعضهم البعض، وتبادل الاتهامات بالفساد، معبرة عن اعتقادها أنهم "كلهم لصوص في الواقع".

ويقر الساسة، وبعضهم قادة ميليشيات والبعض الآخر من أُسر تمتعت بنفوذ كبير على مدى أجيال على الطوائف المسيحية والمسلمة في البلاد، بأن الفساد موجود لكنهم ينفون مسؤوليتهم عنه، ويقولون إنهم يبذلون ما في وسعهم لإنقاذ الاقتصاد.

غير أن الخلاف الطويل والمستمر على من يرأس التحقيق في انفجار مرفأ بيروت عطل المحادثات مع صندوق النقد الدولي التي تعتبر حيوية لفتح الطريق أمام وصول الدعم الخارجي خاصة من فرنسا.

وتراجع مانحون كان يُعتد بهم ذات يوم مثل السعودية معربة عن غضبها من تنامي النفوذ الإيراني في لبنان عن طريق جماعة حزب الله الشيعية المدعومة من إيران والمدججة بالسلاح.

وسعى نجيب ميقاتي، رئيس الوزراء الملياردير الذي يتولى منصبه سنياً وفقاً لنظام المحاصصة الطائفية المتبع في البلاد، لإصلاح العلاقات مع دول الخليج.

وصعد حزب الله من جانبه انتقاداته لدول الخليج واستضاف مؤتمرات معارضين محليين لحكامها.

ومن ناحية أخرى من المتوقع أن تعقد الحكومة أول اجتماع لها منذ أكثر من 3 أشهر الإثنين، لبحث مسودة ميزانية عامة تأمل أن تخفف من الضغوط المالية وتهدئ الغضب العام.

ويقول شادي علي محمود، 39 عاماً، بعد عودته إلى منزله من عمله في مطبخ بأحد المطاعم معلقاً على أداء الساسة: "إذا كل واحد منهم تبرع بشيء بسيط من ثروته لعائلات فقيرة، لا يعود فيه فقر في لبنان. أنظر إلى البراد، إنه فارغ".