"ذاكرة الطفولة" زاوية نضئ فيها على طفولة أديب من الإمارات، نصغي لأولى تجاربه ورؤاه، أولى أفراحه وأحزانه، نمخر عباب مرحلة، بصماتها خالدة في أعماق الذات، وتتسرب لأطراف الأصابع، عبر النتاج الأدبي بين لحظة وأخرى.

 أمي وضعتني على درب الحياة الثقافية بموهبتها الشعرية
الشجرة تشبه الإنسان خاصة النخلة رفيقته وضالته
ذائقة جدتي التشكيلية وحس أمي الشعري لبنة أولى لموهبت
أبي له دور كبير في بلورة تجربتي الإبداعية لأبعد الحدود

يؤكد الشاعر الدكتور خالد الظنحاني: " إن روحانيات الشهر الفضيل وعبقه يغذي النفس والروح بطاقات من الإيجابية والراحة والطمأنينة، وهذه الأحاسيس الفيّاضة أكثر صخبا ودويا في نفس المبدع المحب لهذا الشهر الكريم، وإن إحساس الفنان المرهف يجعل من ذاكرته الحسية أكثر قدرة على تخزين تفاصيل جماليات هذا الشهر المبارك ووقعه في منتجه الفني والأدبي والتشكيلي وغيره".
 


مجالس رمضانية
 

ويضيف في حوار خاص لموقع 24 الإخباري: "  كان رمضان يمثل لي وأنا طفل؛ باباً مشرعا من اللقاءات الاجتماعية الغزيرة والممتعة مع العائلة، حيث تكثر الزيارات وتعم التهاني والتبريكات بيوتنا الدافئة ببركة شهر رمضان المعظم في الفريج (الحي)، وكنت أستمتع جدا بالجلوس مع والدي في المجالس الرمضانية الشيّقة والمفيدة، التي بنت في وجداني معلما خاصا لهذا الشهر الفضيل، الذي يتخذ فيه كل شيء طعما ومذاقا مختلف، ولا يمكن البتة إنكار فضل هذه المجالس وحكاياتها الرمضانية المثمرة في تغذية معارفي، وتثقيفي وربطي أكثر في بيئتي الأم، وجعلي متعطشا دوما للإصغاء المتأني، لما يروى ويقال، ثم ربط الأحداث والتفاصيل والاستفسار عن الحيثيات، وتحريك حنيني للقراءة والمطالعة لما تيسر من كتب في عمر الصبا".
 


فسحة تأمل




ويقول: " ارتبط الشهر الفضيل لدي أثناء مرحلة الطفولة بارتياد شاطئ البحر، للتغلب على الوقت وانتظار الإفطار بشغف، لكن ما تخيلته وأنا طفل يلهو على الشاطئ وإضاعة للوقت للتغلب على الجوع في انتظار الإفطار، كان فسحة تأمل وغذاء مستمر لحواسي الأدبية، وتنمية لحس المشاهدة لدي ورص للصور وجمالياتها بين مفرداتي الأدبية، التي طفت على سطح تجربتي الشعرية بعدما نضجت وحلقت في سماء الإبداع والتوق للتألق".
 


نبع الحنان
 

وعن علاقته بوالدته يبين: "الأم نبع حنان، وحافز أجمل وأقوى للنجاح في الحياة، فهي بذرت بداخلي حب الشعر، حيث أنها كانت تكتب شعرا، وكانت محبة جدا للمعرفة والثقافة، وطالما شدت من أزري في مشواري الدراسي، وهي تحثني على المثابرة والنجاح والتألق، وتشجعني على الذهاب إلى المجالس والنهل من خبرات أهلها، فلطالما اعتبرت المجالس مدارس للحياة، وهو ما اكتشفته حقا عندما كبرت ونضجت، فأمي وضعتني على درب الحياة الثقافية بموهبتها الشعرية وحبها للثقافة وتقديرها للعلم والمعرفة وكانت توجيهاتها خير دليل لي في مشواري الحياتي والثقافي".
 


لبنة الشعر الأولى




ويتابع الظنحاني: " جدتي بمثابة أمي ولها بصمة خالدة في حياتي وذاكرتي، خاصة والدة أمي التي كانت محبة جدا للوحات التشكيلية، وعندما أزورها تستحوذ على اهتمامي اللوحات الفنية، التي تعلقها على الجدران، مما منحني حافزا بصريا كبيرا، وكنت شغوفا في بداياتي بهواية الرسم و التلوين، فذائقة جدتي التشكيلية أثرت فيّ كثيرا، وتعاضدت مع حس أمي الشعري، فهما بمثابة اللبنة الأولى لتكوّن الشاعر والمبدع بداخلي".  
 


حنين جارف




ويقول : " فقدتُ جدّاي وأنا صغير، ولم أستفد من خبرتهما في الحياة، أما أبي فله الدور الأكبر في بلورة تجربتي الإبداعية، وهو الداعم والصاقل لتجربتي اجتماعيا وأدبيا، كان يحثني لمرافقته ومشاركته في أنشطته وأعماله، حتى في مجال الزراعة الذي أحبه، وكان يطلق على كل نخلة في مزرعته اسم أحد أبنائه، وكانت لي نخلة أعتني بها، وكتبت مقال "أحن إلى نخلة أبي"، قلت فيه "عندما دخلت المزرعة، للمرة الأولى بعد 15عاماً، بحثت بلهفة عن نخلتي التي رعيتها صغيراً حيث منحها أبي لي، وأطلق اسمي عليها منذ ولادتي، إذ كان والدي كلما رُزق بمولود يطلق اسمه على شجرة من أشجار النخيل الموجودة في مزرعته، وبعد أن يكبر المولود يتولى رعايتها، وحين شاهدت نخلتي أسرني الحنين إليها، وفاضت نفسي بمشاعر حميمة نحوها، كان شعوراً أشبه بمن أضاع طفله ثم وجده، ورغم غيابي سنوات طويلة، إلا أنها بادلتني الشعور نفسه كما أزعم، وأظنها كذلك، وإلا لمَ انتابني حنين جارف نحوها، أليس في عالم الأشجار مشاعر حب وحنين وسرور وألم؟ الشجرة تشبه الإنسان في كثير من الصفات، خاصة النخلة فهي رفيقة الإنسان وضالته."
 


مغامرات الطفولة
 

  ويضيف : " مرحلة الطفولة بالنسبة لي فيض من ذكريات جميلة مع رفاق طفولتي، الذين كنت أنطلق معهم في رحاب الطبيعة الأم، ننهل من المغامرات واللهو والمتعة الطفولية الخالصة، نخوض رحلات استكشافية للجبال والسهول وننعم بجمالها، ونحرص على اقتفاء أثر خلايا النخل ونستمتع بأكل ما تيسر من عسل، لنعود بذكريات جميلة وصور رائعة، ولدغات نحل تكسو وجوهنا وأيدينا، تذكّرنا بمغامرات تخلد في قلوبنا حنينا لتلك الأيام الخوالي، وكان لرحلاتنا في البر متعة خاصة، حيث نهرع للربوع في أجواء غائمة ماطرة، نملأ حواسنا برائحة الأرض الرطبة الحية النابضة، ونملأ ذاكرتنا بذكريات جميلة، وللبحر قصة رائعة، حين نرتمي في أحضان شواطئه وأمواجه المعطاءة، ونصطاد أسماكه في المساء بعد إنهاء واجباتنا المدرسية، ثم نعود محملين بخيرات وذكريات وأنس وانشراح".
 


سحر القصيدة
 

ويتذكر الظنحاني، أياما جميلة عاشها مع صديق طفولته الشاعر محمد بن حسنوه، ثم بدآ مسيرتهما الشعرية سوية، وما زالت صداقتهما قائمة ومستمرة، ويقول: " مارست هوايات عديدة وتنقلت بينها واستفدت من مهاراتها في تجربة حياتية وإبداعية، وكان لكرة القدم مكانة خاصة عندي، أيضا السباحة ورحلات البر والشغف بالشعر والقراءة والفن التشكيلي، جميع هذه الهوايات ساهمت في  تشكيل حسي الإبداعي، وبلورة تجربتي الشعرية، ولكل حقل جماليات ومفردات ومعجم وصور خلّابة، لكني وجدت نفسي أكثر في القصيدة".
 


 عصي على النسيان




وبالنسبة للمدرسة يعتبرها مهد المعرفة والراعية الأولى، قائلا: "معلمونا كانوا خير راع لتوجيهنا وتنويرنا واكتشاف مواهبنا ودعمها وتشجيعها، كما أن الإذاعة المدرسية لعبت دورا مهما في فتح آفاق معرفتنا ومهاراتنا،
 أما المعلم الذي لا ينسى، فهو المعطاء الوفي لعلمه، والحاني والشغوف برؤية أبنائه الطلبة متفوقين ناجحين، وحين نكبر نتذكر صور الماضي لمعلم أو معلمة كانت عيناهما تلمعان فرحا وربما يكسوهما الدمع، وهما يسلماننا شهادات التخرج والنجاح، وحين نلتقيهم صدفة بعد سنوات يفخرون بما حققنا من نجاح وتألق، هذا المعلم الحق يظل في الذاكرة والوجدان عصيا على النسيان.

 


رئة المبدع




 ويوضح: " القراءة رفيقة دربي، تأثرت بعدة كتب منها كتاب" أيقظ قواك الخفية" لأنتوني روبنز، وكتاب "كليلة ودمنة" وغيرها من الكتب والروايات والدوريات التي لم تنقطع البتة من مسيرتي، وأعتبر أن لكل مرحلة عمرية وحقبة إبداعية أنماط محددة من الكتب، تطرق أبواب حواسنا بقوة لكنها لا تلغي بقية الكتب، فالكتاب رئة المبدع وجناحه المحلق في سماء التألق" قائلا:" نشرت أول كتاباتي بصحيفة الخليج في "منبر القراء" وتضمنت عدة مقالات وقصائد، وكانت أول ثمار حدائقي الإبداعية التي اطلع عليها المتلقي".
 


أول حب وسفر


 وعن أول رحلة سفر في حياته يقول الظنحاني: كانت للمملكة الأردنية، وهي تجربة متفردة، شاهدت حياة بألوان أخرى غير التي أعرفها، واطلعت على ثقافة مختلفة وعشت حالة فرح مدهشة، وأثرت صور تلك الرحلة ومناظرها وروافدها الثقافية في تجربتي الشعرية، لأنها سفرتي الأولى، ولأن الأردن بلد له ثقل ثقافي وحضاري كبير، مبينا "أن الحب ألق الحياة ونبضها، وقد عاشه من النظرة الأولى وكان له صداه في تجربته الشعرية، وكتب عدة قصائد في هذا الغرض".