يبدو رهان الرئيس إيمانويل ماكرون على الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، على قاعدة وضع الفرنسيين أمام خيار التصويت لحزبه أو لحزب مارين لوبان، محفوفاً بالمخاطر. ويظهر أن دعوته لتشكيل "جبهة جمهورية" ضد التجمع الوطني لا تجتذب سوى القليل من المهتمين.

الحزب سيفوز بنسبة 29.5% من الأصوات في الجولة الأولى

هذه كانت ملاحظات مراسل صحيفة "صنداي تايمز" في مدينة هينان بومونت الفرنسية بيتر كونرادي.

وكتب أن معسكر لوبان هو الذي يتصدر استطلاعات الرأي مدعوماً بانشقاق قسم كبير من حزب الجمهوريين الذي ينتمي إلى يمين الوسط، وريث حزب ديغول الذي كان عظيماً ذات يوم. حتى ابنة أختها ماريون ماريشال تعود إلى الكنف بعد انشقاقها وانضمامها إلى حزب يميني منافس.

عودة الرئيس السابق

يقودحملة التجمع الوطني؛ جوردان بارديلا، 28 عاماً، وهو تلميذها السياسي ومرشحها لمنصب رئيس الوزراء. ويبدو أن الحزب سيفوز بنسبة 29.5% من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات المقرر إجراؤها في 30 يونيو (حزيران)، بحسب استطلاع أجرته كلاستر 17، وهذا سيضع التجمع الوطني أمام الجبهة الشعبية الجديدة بفارق ضئيل، وهو تحالف متشظ بين قوى يسارية ويسارية متطرفة وبيئية، بنسبة 28.5%.
وتلقت الجبهة دفعة بعد أن قال الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند، إنه سينضم إليها من خلال الترشح لمنصب نائب في البرلمان؛ أثار ذلك تكهنات بأنه ربما يتطلع إلى منصب رئيس الوزراء.

وقال للصحافيين: "أنا أفعل هذا من أجل البلاد".

الاحتجاجات بدأت

حصل حزب النهضة الذي يتزعمه ماكرون وحلفاؤه على 18% فقط. وقد يتم تخفيض حصة أكبر مجموعة في البرلمان المنتهية ولايته من 249 مقعداً إلى 70 إذا فشل في الوصول إلى الدورة الثانية في غالبية الدوائر، وبالنظر إلى العداء بين الكتل الثلاث، ليس من الواضح كيف يمكن لأي حكومة تحقيق الأغلبية بعد الجولة الثانية من الانتخابات في 7 يوليو (تموز). 

 يوم السبت، شارك ما يصل إلى 350 ألف شخص في احتجاجات "ضد الفاشية" في باريس ومدن كبيرة أخرى، في مقدمة للصراع الاجتماعي المرجح أن يندلع إذا وصل حزب التجمع الوطني إلى السلطة. وبحلول منتصف بعد الظهر، اندلعت أولى الاشتباكات في العاصمة مع الشرطة التي ردت بإطلاق الغاز المسيل للدموع. وتم نشر نحو 21 ألف ضابط في جميع أنحاء البلاد.

من تأييد الشيوعيين إلى تأييد أقصى اليمين

ناقضت الاضطرابات في الشوارع الهدوء الذي اتسمت به هينان بومونت التي كانت قد اختارتها لوبان (55 عاماً) لإطلاق الحملة الانتخابية لحزبها قبل 24 ساعة. كان امتداد الشمال الصناعي الذي تقع فيه المدينة مكاناً لمناجم الفحم والمسابك. وكان العاملون فيها يصوتون بقوة للاشتراكيين والشيوعيين. لكن على مدى العقد الماضي، ارتدت بشكل حاسم نحو الاتجاه المتطرف المعاكس.

وقال تريستان هوت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ليل، إن منطقة أو دو فرانس (أعلى فرنسا) في هذه الأيام "ميّالة اجتماعياً إلى التصويت لليمين المتطرف". المستويات المرتفعة نسبياً من الفقر والبطالة هي عوامل تغذي السخط من السياسيين الرئيسيين. يفيد هذا أكثر التجمع الوطني عوضاً عن اليسار، بفعل استبدال كبار أصحاب العمل القدامى بشركات أصغر، حيث عضوية النقابات العمالية أقل. كما تورط عدد من رؤساء البلديات الاشتراكيين السابقين في فضائح فساد.

دور خاص

تلعب هينان بومونت التي يقطنها 26 ألف شخص دوراً خاصاً للحزب: فقد أصبحت لوبان نائبة عنها منذ سنة 2017، في حين أن لديها أيضاً عمدة من التجمع الوطني وهو ستيف بريوا (51) الذي انضم إليها في جولتها، وقد حكم المدينة منذ سنة 2014. وفي انتخابات الأحد الماضي، أيد 61.4% من ناخبي هينين بومونت حزب التجمع الوطني، أي ما يقرب من عشرة أمثال النسبة التي حصلت عليها قائمة ماكرون. وعلى المستوى الوطني، حصل التجمع الوطني على 31.4% مقابل 14.6 لحزب الرئيس.

 

ويبدو أن شعبية بريوا عززت نتيجة التجمع الوطني. قال عمدة المدينة في وقت لاحق لمراسل صنداي تايمز: "هذا يُظهر أنه عندما نكون مسؤولين، لدينا القدرة ببساطة على إدارة الأمور". وأضاف: "بالطبع إنها مدينة صغيرة بالمقارنة مع فرنسا، لكن لا يزال هذا يقتل حجج خصومنا الذين يقولون إننا لا نعرف كيف ندير الأمر أو أننا غير متمكنين".
لم تأتِ نتائج الانتخابات من فراغ: هي تعكس الطبيعة المتغيرة للولاءات السياسية في فرنسا والمهارة التي استغلتها لوبان منذ سيطرتها على الحزب قبل ما يزيد على عقد من الزمن.

المظلي السابق الذي صدم المؤسسة

أسس والدها جان ماري لوبان، مظلي سابق، الحزب سنة 1972 باسم الجبهة الوطنية، وعمل الحزب لفترة طويلة على هامش السياسة الفرنسية، لأسباب ليس أقلها الطبيعة المتطرفة لسياساته الخاصة والرفقة التي احتفظ بها: لقد ضم الأعضاء المؤسسون المتعاونين في الحرب العالمية الثانية وحتى أعضاء من منظمة فافن أس أس الألمانية.
ولم يساعد في ذلك تجاهله المتكرر لغرف الغاز باعتبارها "مجرد تفصيل للتاريخ"، الأمر الذي أدى إلى إدانات عدة بتهمة إنكار الهولوكوست. لقد كان هذا ادعاء ردده عندما التقى المراسل به قبل عامين حين كان عمره آنذاك 93 عاماً. وسأل: "إذا لم يكن هذا تفصيلاً من تاريخ الحرب، فماذا كان؟" وتدهورت صحته منذ ذلك الحين بشكل حاد، بالرغم من نشر لقطات تظهره جالساً على أريكة إلى جانب عائلته نهاية الأسبوع الماضي وهو يشاهد ظهور النتائج.
لم تمنع آراء كهذه الجبهة الوطنية من تحقيق بعض النجاحات، وكان أكثرها درامية سنة 2002، عندما وجه لوبان الأب صدمة للنظام السياسي الفرنسي من خلال الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، لكنه خسر بنسبة 82-18% أمام الرئيس الديغولي جاك شيراك بعدما تكاتف الجميع ضده.

نقطة تحول

كان وصول ابنته مارين التي تولت القيادة سنة 2011 هو الذي أدى إلى تحويل الحزب إلى قوة رئيسية. كان الشعار هو اجتثاث الشيطنة: التخلص من السموم والتطبيع. وفي 2015، بعدما رفض والدها الامتثال، قامت بطرده. وكان تغيير اسم الحزب بعد ثلاث سنوات علامة أخرى على تصميمها على الانفصال عن الماضي.
وظلت الرسالة المركزية للحزب بدون تغيير إلى حد كبير: برنامجه للحكم يدعو إلى "حماية" حدود فرنسا من الهجرة وإعادة إرساء القانون والنظام. ومنذ ارتفاع التضخم قبل عامين، اقترنت هذه الوعود بتعهد تعزيز "القوة الشرائية" بالرغم من أن النقاد يزعمون أن أرقام الحزب ليست منطقية.

كانوا يبكون

جاءت المكافأة في صناديق الاقتراع: في أول منافسة لها ضد ماكرون سنة 2017، فازت لوبان بنسبة 34% في الجولة الثانية. وبحلول منافستهما الثانية سنة 2022، ارتفعت النسبة إلى 41%. وقد فازت بالانتخابات البرلمانية بعد شهرين مع حصول حزبها على 89 مقعداً في الجمعية الوطنية، وعلى فرصة للظهور كحزب بديل للحكومة.
قاد بارديلا الذي أصبح رئيساً للحزب سنة 2022 الحملة الانتخابية الأوروبية الأخيرة. وبينما يأمل بارديلا أن يصبح رئيساً للوزراء، أكدت لوبان خلال زيارتها إلى هينان بومونت أنها ستركز على الترشح الرابع للرئاسة سنة 2027.
ومن العوامل الحاسمة أيضاً في صعود الحزب، سعيه إلى ترسيخ نفسه على المستوى المحلي، وهو ما حقق له أول نجاح درامي في منتصف التسعينات عندما فاز الحزب بأربع مدن، من بينها تولون التي تضم أكثر من 600 ألف نسمة. قالت فيرجيني مارتن، عالمة السياسة في كلية كيدج للأعمال، إن هذا الأمر "فاجأ الناس. لقد كانوا يبكون".

استيعاب الرسالة

تم تعلم الدروس بحلول سنة 2014، عندما فاز الحزب بالسيطرة على نحو اثنتي عشرة مدينة، بما فيها هينان بومونت. وتم تزويد رؤساء البلديات الجدد بأدلة إرشادية من قبل مقر الحزب وتوجيههم للتصرف بحذر وبطريقة لإظهار أن الحزب مؤهل للحكم.

 

 ويبدو أن بريوا الذي أعيد انتخابه سنة 2020 بنسبة 74% من الأصوات قد فهم الرسالة. قالت آن ماري (63)، مساعدة تدريس متقاعدة: "عندما يقول إنه سيفعل شيئاً ما، فهو يفعله. إنه يفي بوعوده". ومعظم الأشخاص الذين التقى بهم المراسل في السوق بعد زيارة لوبان بدوا من المعجبين.
لم يكن ناثان ديريمو (18) مقتنعاً. أضاف وهو يوزع منشورات الحزب الشيوعي: "إنهم يتعاملون مع المدينة وكأنها واجهة عرض، ويحرصون على عدم القيام بأي شيء غبي". باعتباره طالباً، كان غاضباً من قرار عمدة المدينة بسحب التمويل من جمعيات خيرية محلية اعتبرها معادية سياسياً.

القانون والنظام

على بعد 20 ميلاً إلى الغرب، تقع مدينة تعدين صغيرة تدعى برواي لا بوسيير. أصبح لودوفيك باجو عمدتها سنة 2020 وقد تدرب على أيدي بريوا. أعطت المدينة الحزب أعلى نتيجة له في انتخابات البرلمان الأوروبي: 63.4%. وفي أحد مراكز الاقتراع، بلغت النسبة أكثر من 80%.
تحدث باجو البالغ من العمر 30 عاماً داخل مكتبه في قاعة المدينة المهيبة عن إنجازاته: كان أولها إنشاء قوة شرطة بلدية قوامها 17 فرداً وتركيب 100 كاميرا مراقبة في وسط المدينة، على أن تتبعها 100 كاميرا أخرى بعد ذلك. وقال: "القانون والنظام هما قضية مهمة. لكن بعد ذلك، تجميل المدينة مهم أيضاً".