أنجبَ الشرق الأوسط في العقود الماضية محاربين حلموا باستنزاف الغرب. عبر «غزوتي نيويورك وواشنطن» حلم أسامة بن لادن باستدراج الجيش الأمريكي إلى أفغانستان آملاً أن يكرّر معه ما فعله بـ«الجيش الأحمر» السوفييتي. لم ينجح. أسقطت أمريكا نظامَ «طالبان»، وطاردت بن لادن. قتلته، وأهدت جثتَه للأسماك.

أطلَّ أبوبكر البغدادي من الموصل شاهراً سيف العداء للغرب والقانون الدولي ولكل اعتدال. جاءته الطائرات الأمريكية ودفنته مع «دولته».
ولدت ثورة الخميني على خط العداء لـ«الشيطان الأكبر». افتتحت أيامها بإذلال الأمريكيين وتحويلهم رهائن في سفارة بلادهم في طهران. تفجير السفارة الأمريكية في بيروت ومقر «المارينز» فيها كشف الهدف والأسلوب معاً. سفك الجنرال قاسم سليماني دمَ عسكريين أمريكيين في العراق، وانهمك في قطع الشرايين التي تربط الغرب بخرائط عربية. قتله دونالد ترامب في بغداد نفسها، لكنه لم يتمكن من تغيير مصير الخرائط التي رابط فيها. إيران دولة كبرى في إقليمها، لكنها لا تستطيع قيادة انقلاب دولي على الغرب. هذا الانقلاب يحتاج إلى حاضنة من قماشة موسكو أو بكين أو الاثنتين معاً.
تحدى صدام حسين الإرادةَ الدولية والأمريكية فجاء الجيش الأمريكي لاحقاً، واقتلع نظامَه وإن بذرائع لا أساس لها. تحرَّش معمر القذافي بالإمبراطورية الأمريكية فقصفت طائراتُها غرفةَ نومِه، ولازمه الذعر منها حتى مقتله.
كانت هذه المحاولات لاستنزاف الغرب عنيفة ودامية، لكنها كانت محدودة، وافتقدت إلى حاضنة قادرة على رعاية انقلاب كبير باهظ التكاليف، وافتقرت إلى بلد بحجم روسيا الغامضة والمترامية، روسيا التي أدمت نابليون، وكسرت غرور جيش الفوهرر.
لا مبالغة في قول إن العالم شهد في الأسبوع المنصرم حدثاً يفوق في خطورته ما صنعه سليماني وصدام والقذافي وبن لادن والبغدادي. ابتهج كيم جونغ أون بالحدث كطفل عثر على لعبة عمره أو كمحارب فاز ببوليصة تأمين كبرى. ليس بسيطاً أن يزورك القيصر وكأنه يحتاج إليك. إلى قذائفك وصواريخك ومسيراتك. وأن يبرم معك ما يشبه معاهدةَ دفاع مشترك، وأن يعدك بالتكنولوجيا لعصرنة ترسانتك، فضلاً عن الأغذية والنفط الرفاقي بأسعار متهاودة.
فلاديمير بوتين الذي زار كوريا الشمالية قبل أيام لا يشبه أبداً بوتين الذي زارها قبل 24 عاماً. انتظر طويلاً، وأخفى نياته ولعابه. نجح المحارب المجروح الوافد من الركام السوفييتي وأنفاق الـ«كي جي بي» في خداع زعماء الغرب. توهموا أن الرجل الذي خرج من عباءة بوريس يلتسين المترنح سيكتفي بحصر الأضرار، وترميم الاقتصاد، والمحافظة على الاتحاد الروسي. وجدوه أحياناً لطيفاً ويمكن التعامل معه والتعاون. لم يخطر في بالهم أنهم دسوا الملح في جروحه القديمة حين حركوا بيادق الأطلسي في اتجاه حدود بلاده، واجتذبوا أوكرانيا التي اختلط دمها السلافي بالولادة الروسية.
زيارة مدوية. جاء القيصر ليشهر تحالفَه مع النظام المعزول والمنبوذ والذي يعاني من عقوبات غربية وأممية. ليتحالفَ مع الرجل الجالس على ترسانة نووية متواضعة مدمناً بيع الصواريخ وإقلاق جيرانه. خلع الزائر عباءتَه على الرجل الذي نجح قبل سنوات في خداع دونالد ترامب الذي توهم أنه قادر على إبرام صفقة مع حفيد كيم إيل سونغ. بدا ترامب ساذجاً في التعامل مع كيم، كما بدا الغرب ساذجاً في فهم الروح الروسية، وقراءة الحلم السري لبوتين. حلم الثأر للاتحاد السوفييتي من الذين نجحوا في اغتياله ومن دون إطلاق رصاصة واحدة.
بعد كوريا الشمالية زارَ بوتين فيتنام التي استقبلت خلال العام نفسه شي جين بينغ وجو بايدن. تتكئ فيتنام على السلاح الروسي لكنها ترى أن مصدر الخطر عليها هو الصين لا أمريكا. تحلم فيتنام بالتكنولوجيا والاستثمارات والسياح، فهل يملك الزائر الروسي ما يغريها؟
سؤال كبير طرح نفسه. تريد الصين إضعافَ الغرب، لكن هل يسمح لها اقتصادها المرتبط بعمق بالاقتصاد العالمي بمماشاة بوتين في انقلابه الذي ينذر بارتطام مكلف بالتحالف الغربي؟ تحلم الصين بولادة عالم متعدد الأقطاب، لكن هل تستعجل رفع درجة المواجهة مع الغرب أم تفضل الانقلاب بوسائل أخرى؟ وهل للصين مصلحة في جلوس كيم جونغ أون في حضن القيصر، وأن يسهم السلاح الروسي في تمكين فيتنام من التمرد على المشيئة الصينية؟ وهل تسهل الجبهة الجديدة التي فتحها بوتين في شرق آسيا استعادة تايوان أم تضاعف تعقيداتها؟
بزيارته كوريا الشمالية وفيتنام بدا بوتين في صورة من يدشّن الحلقة الثانية من «الطوفان» الروسي بعدما كان قد أطلق قبل عامين حلقته الأولى على الأرض الأوكرانية والأوروبية. لعبة كبرى. لعبة خطرة. يراهن القيصر على ضعف الغرب. الرجل الجالس في «10 دوانينغ ستريت» موعود بالسقوط خلال أيام. وسيد الإليزيه يترنَّح على موسيقى الانتخابات. والمستشار الألماني رجل عادي جداً في زمن تحديات استثنائية. وأمريكا تستعد للمفاضلة بين رجل تخونه ذاكرته، ورجل يصعب التكهن بمفاجآته.
قبل شهور هزَّ «طوفان السنوار» الشرق الأوسط، لكن هذا الطوفان قابل للاحتواء. «طوفان بوتين» أوسع وأخطر. جنرالات الغرب يقولون إن الحرب الكبرى آتية. يتحدثون عن ولادة «محور الشر» الجديد، ويتحسسون ترساناتهم. بينهم من يقول إنّ بوتين افتتح طريق العودة إلى عالم المعسكرين ومعه «ربيع الدول المارقة»، ويقصدون كوريا الشمالية وإيران. يصعب التكهن بحدود «الطوفان الروسي». مصير العالم معلق على حصافة الرجل الجالس على عرش ماو تسي تونغ.