انفردت باريس بحفلة أمّ كلثوم الوحيدة خارج الوطن العربي، غنّتْ على مسرح أولمبيا في مدينة النور، فكانت حفلة أسطورية وليلة خالدة.
يذكرها الكتّاب المؤرّخون، ويتحدّثون عن جماليتها، وتفرّدها عن الحفلات الأخرى التي تُقام على هذا المسرح، الحفل الذي حضره حشدٌ من الفرنسيين الذين طربوا لأمّ كلثوم، وهم لا يعرفون العربية، ولم يكن تفاعلهم أقلّ من الجمهور العربي المتعطّش لسماع سيّدة الغناء العربي.
في ذلك الشهر الخريفي من سنة 1967 نشرت "مجلة لوموند" ملفّاً كاملاً عن أهمّ العروض الفنّية التي شهدتها فرنسا عبر تاريخها، وأكّدت أن حفل السيّدة أمّ كلثوم كان واحداً من أهمّ هذه العروض على الإطلاق، ظهرت أمّ كلثوم على المسرح المكتظ بمحبيها أكثر من مجرّد مطربة، فهي أيقونة
الشرق، وشدَتْ بقصائدَ غنائية للعالم العربي كله. لم يسهر مسرح الأولمبيا من قبل حتى هذا الوقت، وامتدّتْ الحفلة حتى ساعات الصباح الأولى، ولكن الجمهور لم يبالِ. في وقت مثل هذا تغطّ باريس كلها في سبات، ولكن داخل المسرح ذي الكراسي الحمراء في تلك الليلة، كان الأمر مختلفاً تماماً، فالحضور مسحور، والجمهور على استعداد للبقاء طوال الليل للاستماع إلى "السيّدة" أمّ كلثوم القادمة من القاهرة والتي كانت تغنّي وتغنّي، ويتمّ تأخير وقت نزول الستار وسط هتافات الحشد الموجود.
ومن باريس إلى أبوظبي، فبعد حفلة الأولمبيا بأربع سنوات استضافت أبوظبي سيّدة الغناء العربي أمّ كلثوم، قبل أيّام من إعلان قيام الاتّحاد، ويؤرّخ لهذه الزيارة كتاب "أم كلثوم في أبوظبي"، الذي أعدّه وقدّمه محمّد المرّ رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم. ويقول الكتاب الذي صدر في عام زايد قبل 6 سنوات، إن أمّ كلثوم جاءت تلبيةً لدعوة الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، وفي نصّ الدعوة: "... سيكون مَبعث فرح وسرور لنا أن نمتّع الأذن بسماع الصوت الشجي، النغم الجميل، آملين أن يتيح لكم الوقت القيام بهذه الزيارة....."
وصلت أمّ كلثوم، واستقرّت مع الوفد المرافق لها في فندق "العين بالاس" على كورنيش أبوظبي، وفي يوم وصولها وجّهت كوكب الشرق رسالة شكر للشيخ زايد، طيّب الله ثراه، عبر جريدة الاتّحاد تقول فيها: ".. يزيد من سعادتي أني قد جئت إلى أبوظبي في مناسبة عيد جلوس صاحب العظمة الشيخ زايد، والاستعداد للإعلان عن قيام دولة اتحاد الإمارات العربية المتحدة ..".
الحفل كان هدية من المغفور له الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رحمه الله، إلى والده الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، بمناسبة عيد جلوسه الخامس حاكماً لإمارة أبوظبي.
استبشرنا بالزيارة، وصدرت الأوامر لتقوم وزارة الدفاع ببناء مسرحٍ مؤقّت لحفلة أمّ كلثوم يستطيع استيعاب 4 آلاف كرسي، وتمّ الانتهاء من بناء المسرح في 3 أسابيع على أرض نادي الوحدة حالياً في العاصمة أبوظبي.
في أبوظبي أحيَتْ أمّ كلثوم حفلتين؛ الأولى في 28 نوفمبر 1971، واستهلّت أغانيها برائعة "أغداً ألقاك"، التي كتبها الشاعر السوداني الهادي آدم، ولحنها محمّد عبد الوهاب، ثم غنّت "الحب كله حبيته فيك.. وزماني كله أنا عشته ليك" من ألحان بليغ حمدي.
في الحفل الثاني بعد يومين تحلّتْ أمّ كلثوم بعقد من اللؤلؤ الخليجي أهداه لها الشيخ زايد، طيّب الله ثراه، وفي حضوره كانت الأغنية الأخيرة "القلب يعشق كل جميل" من ألحان رياض السنباطي.
بعد الإعلان عن قيام دولة الإمارات في دار الاتّحاد في دبي، توجّه صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي آنذاك إلى ساحة قصر المنهل، وأمرَ برفع علم الاتّحاد، وكانت لحظة تاريخية رائعة، وشهدت أمّ كلثوم مراسم رفع علم الدولة للمرّة الأولى في العاصمة أبوظبي.
أجمل ما في الكتاب أن جميع صوره عفوية، ولن تجد صوراً لعيونٍ تنظر مباشرة لعدسة الكاميرا، وعندما تنظر إلى الصور ستتوقّف أمام العديد منها، لتطيل النظر في تفاصيلها، وقد يأخذك خيالك لتعيش الأجواء الاحتفالية في أبوظبي آنذاك عندما أشرق النور بإعلان الاتّحاد.
حضرت أمّ كلثوم إلى أبوظبي، وغنّتْ لكل العرب، كانت الحفلة جزءاً من احتفالنا في بداية الخمسين الأولى المباركة، وفي بداية الخمسين الثانية قبل ثلاث سنوات احتفلنا في "إكسبو" مع كل شعوب العالم، وعلى مدى 6 شهور روينا للعالم قصّتنا قبل وبعد، وتحدث الحاضر عن نفسه، ليقول إن الاتّحاد والأمان والانفتاح الاجتماعي والاقتصادي هي ركائز نجاح النموذج الإماراتي.