الرجوع من الحرب أصعب من الذهاب إليها. على العائد أن يقدّم رواية مقنعة. أن يفسّر ويبرّر. وأن يقارن بين الخسائر والأرباح. وبين الأهداف التي أعلنت وما تحقق منها. وأن يقول إن كان يشعر أنه أكثر أماناً بعد وقف النار. وإن كانت نهاية الحرب مجرد هدنة استعداداً لحروب أخرى.

كانت نهايات الحروب أسهل لأنها كانت تجري بين جيوش تأتمر بأوامر حكومات. بعض حروب اليوم مختلف، خصوصاً حين يتواجه جيش مع فصائل ذات امتداد إقليمي. والأخطر من كل ذلك أن تعتقد أطراف الحرب أنها حرب وجود لا يمكن التراجع فيها. ما أصعب الخروج من الحرب حين يصعب الاحتكام إلى وسيط محايد ونزيه يرمم معادلة المصالح ويوزع الضمادات!
أخطر ما في الحرب الجوالة التي يعيشها الشرق الأوسط منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي هو أنها تدور في وضع دولي شديد الخطورة. يعيش العالم اليوم بلا صمامات أمان. مجلس الأمن يشبه عيادة طبية فقد العالم ثقتَه بقدرة أطبائها ونجاعة عقاقيرها. والعلاقات داخل نادي الكبار هي الأسوأ منذ عقود. تكفي الإشارة إلى أن جندياً روسياً يقتل بقذيفة أمريكية أو ألمانية أو بريطانية. وأن أسلحة غربية مكّنت أوكرانيا، وفي السنة الثالثة من الحرب، من التوغّل داخل الأراضي الروسية نفسها في مشهد غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية. أسكر المشهد فولوديمير زيلينسكي فوصف سيد الكرملين بأنه «رجل عجوز مريض، من الساحة الحمراء يهدّد الجميع باستمرار بالزر الأحمر ولن يملي علينا أياً من الخطوط الحمر». والواقع أن الجيش الأوكراني أسقط الخطوط الحمر حين تجرأ على اقتحام أراض روسية. وكان بوتين نفسه أسقط الخطوط الحمر في 2022 حين أسقط الحدود الدولية مع أوكرانيا وأعاد أوروبا إلى عصر التلاعب بالخرائط.
كلام زيلينسكي هو كلام رجل خائف. يخشى أن يضطر إلى وقف الحرب وأن تفوز القوات الروسية بجزء غير متواضع من لحم الأراضي الأوكرانية. الرجل الخائف يمكن أن يتحوَّل مخيفاً إذا ذهب بعيداً في ممارسة ثأر المجروح والمقامرة بما تبقّى. قصة الخائف الذي يتحول مخيفاً تنطبق أيضاً على بوتين. خاف من رؤية بيادق حلف «الناتو» تقترب من حدود روسيا. قرَّر كسر الحصار واختار أوكرانيا لإجهاض أحلامها الأطلسية ولإطلاق عملية ترمي إلى استنزاف الغربِ صورة وإمكانات. وتزداد الخطورة حين يمتلك الرجل الخائف ترسانة تمكّنه من التحول مخيفاً. لعبة التذكير بالترسانة النووية التي تمارسها موسكو منذ بدء الغزو الأوكراني تزيد شراهة الدول الإقليمية للحصول على «بوليصة التأمين» النووية.
ما أخطر الحرب حين يرفض خصمك أن يستسلم على رغم فداحةِ الخسائر ويعثر على من يضخ المساعدات في عروقه. غياب القدرة على توجيه ضربة قاضية لحسم الحرب يجعل الإقامة في الحرب شبيهة بالإقامة في النفق.
في هذا السياق الدولي الخطر جاء الانفجار في الشرق الأوسط. أطلق يحيى السنوار عملية سرعان ما تحوّلت أكبرَ من مسرحها الأصلي. كان من الصعب على «حزب الله» أن يبقى خارج حرب غزة. أطلق في اليوم التالي حرب مشاغلة أو مساندة. أغلب الظن أن أحداً لم يتوقع أن تبقى نار غزة ومعها نار حرب المساندة عشرة أشهر ومن دون ظهور علامات جدية على إمكان وقفها. نجحت أمريكا خلال هذه الفترة في منع اندلاع مواجهة شاملة مفتوحة على مصراعيها. تبادل الضربات أمس على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية وقبل ساعات من جولة مفاوضات الهدنة في القاهرة يؤكّد مقدار الترابط بين الحرائق الموزعة على أكثر من خريطة.
قالت إيران صراحة إنها غير راغبة في حرب شاملة وإنها ستبرمج ردها على اغتيال إسماعيل هنية بما لا يؤدي إلى الانزلاق إليها. وقال «حزب الله» في ردّه على اغتيال القيادي فؤاد شكر إنه لا يريد الذهاب إلى حرب شاملة وهو ما عكسه اختيار أهداف محض عسكرية لهجماته أمس. لكنّ اغتيال هنية وشكر تم في بيروت وطهران. واختيار المكانين ليس صدفة. أغلب الظَّن أن نتنياهو أدرك أن إيران و«حزب الله» لا يريدان المواجهة الشاملة، فصعد في محاولة منه لاستدعائها واستدراج البوارج الأمريكية إليها. لا الحزب يستطيع عدم الرّد على اغتيال شكر ولا إيران تستطيع عدمَ الرد على اغتيال هنية. للأمر علاقة بصورة إيران وصورة الحزب وامتلاك ورقة الردع أو خسارتها.
في السابع من أكتوبر(تشرين الأول) الماضي بدت إسرائيل في صورة الضائع والخائف. بعد عشرة أشهر تبدو في صورة المخيف. ارتكبت مذبحة مفتوحة في غزة وقتلت مئات المقاتلين من «حزب الله» وشنَّت غارات في سوريا واليمن واستهدفت مواقع إيرانية وأدخلت إيران في امتحان الصورة والردع.
ما أصعب الخروج من الحرب! لن تحصل «حماس» في أي هدنة على ما يوازي الخسائر التي تكبدتها وتكبدها أهالي غزة. وواضح أن «حزب الله» يتعرّض لضغوط كبرى للقبول بتطبيق القرار 1701. إسرائيل التي تعهَّدت بلسان نتانياهو بإنهاء «حماس» لم تحقق هذا الهدف، وسكان الشمال يعيشون في مراكز اللجوء. إيران نفسها ستجد صعوبة في التسليم بتعطل الضلع الفلسطيني في محور الممانعة. هل تملك إدارة بايدن حلاً يرجع الشرق الأوسط من شفير الهاوية؟